الأحد، 22 نوفمبر 2015

السامري الصالح المتابع لنشرات الأخبار



أشغل التلفاز بعد أن وضع كوب الزبادي ورغيف الخبز علي المنضدة أمامه، ليتسلي أثناء عشاءه .. غدا ينتظره يوم سفر طويل، يتحتاج أن ينام مبكرًا ليكون منتبهًا أثناء القيادة.
     تظهر أمامه صورة الطفل "إيلان" علي خلفية الخبر .. يتسمم الطعام في فمه، يشعر بالغثيان، ينهض ليفرغ ماوصل للتو معدته. يبكي بأنهيار أمام الحوض .. يضع رأسه تحت الصنبور المفتوح ويتذكر أبن أخته الذي يماثل "إيلان" في السن، وعنده ملابس تشبهه .. للوهلة الأولي ظنه هو!
     في الصباح استيقظ وهو يشعر بإعياء .. صداع شديد وغثيان. سوف لايسافر من أجل العمل اليوم، لاطاقة لديه للقيادة .. سيرسل بريد إلكتروني يعتذر فيه.
     علي طريق السفر كان ينتظره شريكهُ في القصة ..، لكنّ القصة سوف لاتكتمل لتغيير الذي طرأ في مسار الأحداث.

***

     ينهره صديقه علي سذاجته، يخبره ألا يكون "غشيمًا" ويتعاطف مع كل المرضي والشحاتيين. يحاول إقناعه بحسبة بسيطة أن الطفل القذر ذو العيون البريئة يُدرّ دخلًا يساوي دخله هو بمقدار الخمس أضعاف، وهو الذي تدرج في المناصب طوال ثمان سنوات، هذا فقط إذا اعطاه كل عشرة اشخاص يمرون عليه جنيهًا واحدًا .. وإذا جلس علي الرصيف لمدة خمس ساعات فقط يوميًا.
     يريه مرة في حارة جانبية الفتاة وهي تنزع كيس البول المعلق بشكل مُلفّق يظهرها كمريضة بمرض مزمن يخص الكلي. يبتسم بسخرية ويرجوه أن يكون أمينًا علي نقوده ولايعاطف مع كل نصاب.
     في حوار آخر يستبصره بأن كل إعلانات الجمعيات والمستشفيات التي ترقق قلبه في التلفاز تتلقي تمويلات، وتنفق مرتبات مبالغ فيها لموظفيها.. ثم أن الدور الذي تقوم به هو دور الدولة وليس دور الافراد.
     يمر "سمريُّنا" الجديد أمام رجل مسن خرج للتو من عيادة الطبيب، ولم يستطع أن يسير حتي طريق المواصلات .. خارت قواه وسقط، تضررت رأسه فنزفت وألتوي كاحله. شعر بعجز الدنيا وذلها كله عنده .. بكي بدموع الشيوخ العزيزة. كان من المفترض أن ينزل السامريّ من السيارة ليساعد الرجل ويأخذه إلي أقرب مركز يعتني به ويدفع له هناك .. لكنه كان مشحونًا بكلام أصدقاءه .. رمقه وتمم ليُسكت قلبه "نصاب" .. عبر به وتركه .. ولم تكتمل أحداث القصة.

***

     يقرأ في "بوست" علي "فيس بوك" عن السيدة الوحيدة، أو الشاب الذين يستوقفوا السيارات بزعم أنهم تائهون، أو سياراتهم معطلة .. يطلبون المساعدة في الانتقال أو يتغيير إطار السيارة .. يطعنون السائق أو يخدرونه ويسرقون السيارة، وكل مقتنيات قائدها. البعض يحكي نفس القصة مع احترافيه أكبر لللصوص، بأجبراهم لقائد السيارة علي توقيع عقد بيع وشراء قبل التخلص منه.
    ترعبه القصص من هذا النوع الموثقة بصور وشهادات! هو كثير السفر علي الطريق وحده!
     تحاول هذه السيدة أن تستوقفه وعيونها دامعة .. ترجو من الله أن يكون شريفًا ولايفكر في إذائها هي أو أطفالها الذين أغلقت عليهم السيارة بإحكام. تعطلت بهم سيارتها أثناء عودتها من عند والدتها، واستنفذ هاتفها المحمول شحنه كعادة المفارقات السيئة. تحاول أن تتصدر الطريق ليراها .. لكنه كاد يصدمها! .. تجاوزها وشعر بأفراجه في صدره أنه –الحمد لله- نجي! .. هذه السيدة هي شريكته في القصة، لكنّ القصة لن تكتمل بسبب ضغطة البنزين القوية بدلًا من الفرامل، وتغيير مسار الأحداث.

***

     أخبره زميل القهوة بشيء مروع عن صديق له وهو يضرب كفًا بكف ويردد بين الجملة والأخري "صحيح خير تعمل .. شر تلقي". ساعد هذا الصديق فتاة فاقدة الوعي في الشارع .. أوصلها للمستشفي، وأدخلها ببياناته، ودفع لها ثمن العلاج، فساومته الفتاة –التي اتضح أنها مدعية- علي ملبغ مقابل عدم الإبلاغ عن تحرشه بها ومحاولة خطفها! .. عرف –هذا الصديق المجهول- بعد ذلك أن هذا نوع جديد من النصب. يصل أحيانًا لخطف المتعاطف وطلب فدية. النصابون ينتمون للأطفال والفتيات الذين يصعب ألا تتعاطف معهم، ويستحيل أن تتوقع من جهتهم سوءًا.
     هذا طفل الذي صدمته سيارة وهو عائد من المدرسة بدي أنه يحتاج لعلاج، وأن يصل لأهله في أسرع وقت، كان في حالة هلع ويبكي بهستريا. نزل "السامري" من سيارته وأشتري له عصيرًا ومناديل ليمسح الجروح والسحجات التي أصابته. بدي الطفل كعصفور هَلِع .. رفض أن يشرب أو ياكل أي شيء، رفض أن يلمسه أحد .. كان فقط يصرخ "ماما" ..
     كاد أن يشرع في توصيله لمنزله لمّا تذكر أنه ربما يكون مُدرّب كي يستميل الشفوقين أمثاله، نظر إليه فوجده طفلًا جزعًا بريئًا .. هل يمكن أن يكون هذا الملاك شريكًا في تشكيل عصابيّ؟ لكنه تذكر أن النصابون مقنعون جدًا .. وإلا لمّا اصطلح تسميتهم هكذا ..
     ربت علي رأسه ومضي .. ومع أن هذا الطفل كان شريكه في القصة، لكنّ القصة لن تكتمل.

***

     ربما هذه بوادر ذبحة صدريّة .. ألم يحتل كتفه الأيسر، مع تنميل وخدر في أطرافه. يغلق التلفاز والحاسوب. سوف لايتابع أخبار تفجيرات "باريس" .. المدينة التي طالما حلم بقضاء أجازة أسطورية فيها .. مدينة النور. تخيل نفسه أحد رواد المسرح أو الأستاد أو المطعم الذين يقضون وقتًا رومانسيًا أو ترفيهيًا ممتعًا .. فإذا بهم ضحايا! ..
     فكر ربما لو صلي لأجلهم لشعر ببعض الراحة. نهض ليصلي .. رفع عينيه فظهر له في سقف الغرفة "البوست" الذي رآه للتو يسخر مِن مَنْ يطلبون الصلاة لأجل باريس، بينما أوطانهم تتمزق، وبها من المآسي مايفوق أنفجارًا عابرًا .. شعر بألم صدره يزداد وعرق بارد يتفصد من مسامه .. يعدل عن قرار الصلاة ويفكر أنها فكرة ساذجة.
     كان من المفترض أن يصلي لأجل كل المتألمين –كما تعود- ولأجل أعداءه أيضًا حتي تكتمل القصة، لكنها لم تكتمل.

***

     "السامري الجديد"سامريًا صالحًا في قلبه .. ليس كاهنًا ولا لاويًا ولا رجل دين رفيع المستوي، وربما ينتمي لذوي الإيمان الفاسد (لأنه سامري، وليس يهوديًا) .. لكنه رحيم.
     ربما ماكان علي سامرينا أن يتابع نشرات الأخبار، ويستمع لنصائح الأصدقاء، ويصدق "بوستات" مواقع التواصل الاجتماعي ليحافظ علي مسار القصة .. ليحيا بالحب .. ويرث الحياة الأبدية .. ولكن ماذا لو كان كلامهم صحيحًا مقنعًا؟ هل سيفتقد عالمنا السامريين الصالحين للأبد؟

***

النص الأصلي لمثل السامري الصالح:
 "وإذا ناموسي قام يجربه قائلا: يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟
فقال له: ما هو مكتوب في الناموس. كيف تقرأ؟
فأجاب وقال: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك ، وقريبك مثل نفسك.
فقال له: بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا.
وأما هو فإذ أراد أن يبرر نفسه، قال ليسوع: ومن هو قريبي؟
فأجاب يسوع وقال: إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا (يفترض أنه يهودي لأن اليهود كانوا يسكنون أورشليم، وهم أعداء السامريين) ، فوقع بين لصوص، فعروه وجرحوه، ومضوا وتركوه بين حي وميت
فعرض أن كاهنا نزل في تلك الطريق، فرآه وجاز مقابله
وكذلك لاوي أيضا، إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله
ولكن سامريا مسافرا جاء إليه، ولما رآه تحنن
فتقدم وضمد جراحاته ، وصب عليها زيتا وخمرا، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به.
وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: اعتن به، ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك.
فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص
فقال: الذي صنع معه الرحمة. فقال له يسوع: اذهب أنت أيضا واصنع هكذا."

(أنجيل لوقا الاصحاح العاشر)

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

"باليرينا"




     مَنْ لم تزر أحلام يقظته أبدًا نفسه كــ"باليرينا"؟ الدوران والطيران .. العين المغمضة باسترخاء. مَن لم يرفع يده ليطرد أثر نوم أو تعب، وتجمد في ضع شد جسمه ليكمل بخياله المشهد علي خلفية مسرح أوبرالي أو شاطئ أو حديقة غنّاء .. حيث لاشيء إلا الجمال والموسيقي العذبة .. وبراح الروح.

     أجيب عن معشر الفتيات وأقول بثقة -مصدرها أنا فقط- كلنا نكون "باليرينا" أحيانًا. بل أن بعضنا ينقل أشياءًا من الخيال للواقع لدعم الصورة بشكل مادي! .. فهذا فستان واسع ندور به في أرجاء منزل خال علي إيقاع موسيقي مُتخيَلة أو حقيقية. وهذا حذاء خفيف أو أقدام حافية تحاول أن تحاكي أقدام "الباليرينا" فلاتستطيع إلا أن تسطح أصابعها وتقف عليها كأقصي مقدرة لتقليص مساحة الألتقاء بالأرض.

     نفرد شعورنا .. ندور ونتعثر في أحذيتنا وأشياءنا الملقاه هنا وهناك ..نسقط فنضحك ونُحرَج لأننا أفسدنا الصورة التي في خيالنا عنا.


***


     من لم يكنْ باليرينا أبدًا؟ هل معشر الرجال يزورون وتزورهم أحلام يقظة من هذا النوع؟ أم يحلمون مثلًا أنهم يقودون سيارة مكشوفة علي طريق زراعي كنوع من التعبير عن الانطلاق بدلا من النموذج الأنثوي كــ"باليرينا"؟ .. لماذا يعتبر هذا نموذج أثنوي من الأساس .. "الباليرينا" رجل وأمرأة.

***

       ربما تخجل فتاة من "باليريناتها" إذا زاد وزنها، فكيف ستطير وتدور وهي علي هذا الرسم؟ ربما قللت محيط خصرها في أحلام يقظتها .. أما في الواقع فسوف لاتحاول أن تكون "باليرينا" .. نظرة واحدة للمرآة كفيلة بتثبيطها.


***

     عانت جدتي في أخر سنواتها من جلطة في المخ سببت لها شللًا نصفيًا. خسرت الكثير من وزنها. كانت تُنقل من السرير إلي الكرسي، ومن حجرتها إلي الحمام بأن تحمل كطفلة نائمة .. مع أنها كانت واعية.
     فيما كانت تفكر أثناء حملها من أبناءها وأحفادها؟ لو كنت مكانها لكان الوضع مهينًا قليلًا .. ولكن هل فكرت هي مرة وهي تلف زراعها علي رقبة أحدهم، أو تري أقدامها مرفوعة في الهواء أمامها أنها "باليرينا" في عرض ما؟


***


     أحاول حصر الحالات التي يري "الإنسان" نفسه فيها في حالة الـ"باليرينا" في أحلام يقظته، أو في الواقع بأداء تمثيلي طفولي دون أن يصيبه الاحراج .. فلا أجد إلا حالة "باليرينا" الكلاسيكية المثالية .. أنثي –فقط- في أواخر المراهقة أو شرخ الشباب، وفي قوام رشيق جدًا جدًا .. نحيف أكثر منه معتدل. أما الأثني الصغيرة فتري نفسها أكبر، والكبيرة تري نفسها أصغر .. الممتلئة تري خصرها أنحف وساقيها كالفروع الخشبية. أما الذكر .. فلا أعرف! .. هل يري نفسه أنثي ويرفض التصريح، أو لايري نفسه أصلًا في هذا الدور؟


***


     هل لتكون حرًا جميلًا قابل للاحتضان والحمل إلي أعلي .. صالح للطلب للرقص إذا ظهر شريك في الحلم يتطلب أن تكون "باليرينا مثالية"؟. "الباليرينا المثالية" باختصار أنثي عندها أفضل احتمالات التخصيب والانجاب .. فقط! .. هل أصبح في خيال العالم الجمال بكل توابعه المعنوية –وأعظمهم الحب- لايليق إلا بمن يليق بـ"الاشتهاء" لتحقيق منفعة الحفاظ علي النوع؟ .. وكأن بدائيتنا تنتصر دايمًا علي أي روحانية في إنسانيتنا. لماذا يبدو مظهر العجوز التي ترتدي ملابس جميلة ملونة وتضع المساحيق "متصابي" و "مايصحش كدة ياتيتة" و "هاتوبي أمتي ياولية" كما في تعليقات شبكات التواصل الاجتماعي علي صور السيدات والممثلات كبيرات السن المعتنيات بأنفسهن؟

     لماذا لايرقّ أحد –أو نادرون يفعلون حتي لاأسقط في التعميم- للمعة الحنان في عيون العجوز المستند علي عصا ويراها جذابة –إنسانيًا- وعاطفية، بينما يمكن أن يلصق نفس الصفات بعيون شاب وسيم لاتحمل عيناه حقًا هذا الاحساس؟ لماذا يليق بالأخير دور "الباليرينا" كأمير، بينما الأخر يصعب تخيله في الدور؟


***


     ترتدي الفتيات الصغيرات فساتينهن الجميلة المنفوشة .. فيدرن ويضحكن وتلمع عيونهن .. كذلك الأولاد الصغار حينما يلبسوا الجلاليب .. "الباليرينة" في دماء الإنسانية قبل أن يعرف أحدهم أن هناك فنًا يدعي "الباليه" يضع قواعد وقوانين لهذا النوع من الحركات المنطلقة والاحساس المصاغ حركيًا ..

     كلنا نحمل روح "باليرينا" تريد تلقائيًا أن تتحرك علي إيقاع الموسيقي .. تريد أن تعبّر عن فرحها بدوران وسقفة وقفزة.. تميل بدلال علي من تحب .. تشبك الأيادي برفق، وتسحب وتضم من تتوسم فيه الوفاق في الرقصة .. حتي ولو في خيالنا.


     لكن روح "باليريناتنا" تُدجّن .. تُقزّم .. تغتال بطعنات بطيئة من السخرية والاستنكار علي مر الأيام .. حتي إذا انتصب مسرح الخيال .. وطاقت الروح للانطلاق والجمال والفرح .. لاتجد أحدًا ليملأ المشهد .. فالكل في الداخل والخارج ثقيل ومحبط ... ومحرج.

الخميس، 21 مايو 2015

الجمال بعيون اصحاب الفطرة

صورة ألتقطتها لــ"فتايات الزهور" في فرح صديقة .. وهن يتابعن العروس من فوق ظهر كرسي يتقاسمانه




     غلق المنبه –المظبوط قبل المعاد بساعة- علي وعد بخمس دقائق فقط هي كذبتنا اليومية .. وهاقد فعلتها في ذلك اليوم أيضًا.
     استيقظ مذعورة علي هاتفي يرن، صديقتي من قلب ضوضاء طفولية تسأل "مش هاتقدري تيجي اليوم ولا إيه؟".
    اليوم موعدي مع ورشة للأطفال من سن أولي إلي ثالثة ابتدائي عن "القصة"! .. في إطار يوم تنظيمي لاكتشاف مواهب الأطفال في الموسيقي والرسم .. والأدب.
    منذ أن سألتني عن أمكانية مشاركتي في اليوم من خلال ورشة قصة للأطفال وأنا مرحبة وقلقة .. الأثنين بنفس المقدار تمامًا. أرحب بالعمل مع الأطفال لأني مؤخرًا اكتشفت أنهم البشر الأقرب لحقيقتنا كما خلقها الله قبل مراحل التشويه، أو في مرحلة التشوية الأولية. وقلقة لنفس السبب .. أنا أقدم منهم في رحلة التشويه وقد طالني ما طالني .. أخشي أن أكون مُعديّة. ترحيبي بسبب توقي إلي الجمال في روحهم وخيالهم .. ولكن هل سوف اُضيف إليه؟ أم فقط سأختلس منه؟
     يجب أن أكون هناك في ظرف عشر دقائق علي الأكثر .. اسكب نفسي من علي السرير، واعيد نصبي ككائن رأسي أمام دولاب الملابس .. ماذا ارتدي؟



***


     "ت" طفلة جميلة بعمر العامين ونص .. احببتها بعمق كما يليق بها. قضينا معًا أقل من عشرة أيام علي هامش ورشة بأسوان في يناير 2015 .. خلال الأيام الأواخر كنا نقضي معًا وقتًا لطيفًا. طوال العشرة أيام كنت أضع "مكياجًا" خفيفًا .. لم يكن كذلك بالضبط وإن بدا. كحل بين أجفاني .. ارسم خطًا أسود فوق عيني .. اُخفي الهالات السوداء .. قليل من ضي الخدود .. وطلاء شفاه وردي يبدو شفافًا.
     في اليوم الأخير وضعت فوق كل ماسبق ظلال للجفون .. واستخدمت طلاء شفاه وردي أيضًا .. لونه قويًا صريحًا.
     لمّا قابلت "ت" لم أكن ألحظ أي شيء مختلف عن الأيام السابقة، لكنها لاحظت. كنت اتكلم وهي غير منتبهة .. فقط تتطلع لشفتاي بعينان مندهشتان .. انتهيت من الكلام، لأجدها –وعيناها ماتزالا مثبتنان علي شفتاي- ترفع أصبعها الصغير لشفتيها العفوريتان "أنتي حاطة روج؟" .. بدهشة خالصة. شعرت لحظتها بغصة لم أجد لها تبريرًا .. خاصة وأن الجميع أثني –مع الغمْزات الشهيرة- بــ "الألوان الحلوة النهاردة".



***


     "م" طفل في الخامسة أو أزيد بشهور .. كان معنا –أسرته ذات القربي وأبنة عمي- في يوم سياحي في منطقة الحسين وشارع المعز. كانت كلتانا –أنا وأبنة عمي- نتوق لرسم الحناء علي أيادينا، نذكر بعضنا بعض من آن لأخر كي لا ننسي .. نقابل السيدات السمراوات اللاتي يرسمن أمام الحسين .. نفرح ونختار أشكالًا ونتركها تبدع علي جلودنا.
     يتابع "م" بنظر خائفة وهو يتشبث بأماه ويطل برأسه كأنه يحمي نفسه من خطر مقبل. نسأله أمام السيدة التي ترسم "عاجبك؟؟ تحب ترسم رسمة علي إيدك؟" فيجيب بسرعة وعفوية "لأ .. مقرف جدًا .. مقزز" ينطقها بالفصحي .. ينطق الــ"ق" كما هي، وليست كما في العامية كــ"أ".
     نحاول أن نمسك يده طوال الوقت المتبقي في الرحلة –أنا وأبنة خالته التي هي أبنة عمي والتي قمت معها بالوشم الرائع- فينفر في خوف وتقزز حقيقي .. أحاول أن أقنعه بأن يدي هكذا تشبه يد أميرة ما، فيجيب بمنطق "الأميرة مش بتعمل كدة .. الأميرة بتحط تاج" .. نحاول أن ننهي هذه اللعبة السخيفة -بالنسبة لي لأني أحبه، ولا أريده أن ينفر مني- فلايستجيب .. يقول "أنا هامسك إيد ماما الحلوة".
     لانجد إلا أن نوافق خياله لأنه –للأسف- صادق ولايدعي! .. نتحول لكائنات شريرة مخيفه تحاول أن تأكله .. يرتعب وهو ينظر لأيدينا، ثم يبتسم وهو ينظر لوجوهنا ويحارب الشر!.


***


     "الجمعة العظيمة" .. هي الجمعة التي تسبق أحد عيد القيامة في الكنائس المسيحية. عبارة عن يوم طويل للصلاة يمتد من السادسة صباحًا حتي سادسة مساءًا.
     أذهب في موعد متأخر .. الكنيسة مزدحمة .. مكان للوقوف بجانب دِكّة تضم مجموعة من السيدات مناسب تمامًا للمتأخرين ..أفتح كتاب صلواتي وأقف للصلاة بجانبهن، علي أن أتربع علي الأرض في أوقات الجلوس.
     أنتبه ليد السيدة التي تقف بجانبي –علي أخر الصف- والتي يغطي وجهها شعر مستعار بلاستيكي ردي الخامة. يدها التي تمسك كتاب صلوات مشوهة جدًا. كأنها تعرضت لحرق أو مايشبه، حوّل جلدها كله لطبقة وردية جافة مبقّعة. منظر يديها يثير معدتي لأول وهلة .. ثم استجمع نفسي وأنظر بعيدًا كأني لم ألحظ .. ألتقط بعد ذبك وجهها بحركة عفوية فأجده مشوة أكثر فأكثر .. ملامحة مخلطة كعجين تعرض للضغط .. وعيناها بلون فاتح وبلا رموش.
      بالتأكيد تتعرض هذه السيدة لمضايقات كثيرة مابين الشفقة والتصعُّب .. إلي النفور والأذراء. أحاول ألا أبدي اتباهًا وأنظر في كتابي أو أغمض عيناي.
     السيدة التي بجانبها أم عشيرنية معها طفلة لاتتعدي العام أو العام ونصف .. بالكاد تمشي. تخيلت أن تغير الأم مكانها لو انتبهت لهذه السيدة التي تحمل تشوهات جسيمة علي جلدها، لاخوفًا ولا تقززًا، لكن لكي لاتسبب انزعاج لأبنتها، أو تسبب أبنتها للسيدة في إزعاج. الطفلة أصغر من أن تتحكم في ردود افعالها.
      تتصرف الأم كأن السيدة التي تجاورها إمرأة عادية تمامًا .. فاحترمها جدًا. أما المفاجأة بالنسبة لي فهو أن الطفلة انجذبت لهذه السيدة! .. تسحب منها الكتاب .. تصدر أصواتًا تلفت للانتباه وهي تتشبث ببنطالها !
     في البداية لازمت السيدة حرصًا تجاه الطفلة .. لم تنتبه، حتي عندما نهرت الأم ابتنها بلطف "سيبي كتاب طنط". ولمّا لم تجد ممانعة أو بادرة ضيق عند الأم بخصوصها .. ضمت أصابعها الضامرة المشوهة –التي بالكاد تخرج من أكمام ملابس طويلة وثقيلة في جو صيفي حار- وبدأت تصدر حركات تلاعب بها الطفلة مع الصوت الكلاسيكي "بِس ..بِس". والطفلة تستجيب.


***


     لاأعرف اسمها .. عمرها لايتعدي العام ونص .. تسير وهي تمد زراعيها علي طريقة من لم يتقن الأتزان. ترتدي فستانًا ورديًا جميلًا، وحذاء صغير بنفس اللون. تبدو كقطعة من الحلوي اللذيذة المغرية للأكل. تبدأ الفتيات في وصلة الرقص علي اغاني المهرجانات في "ليلة الحنة" التي أحضرها بصفتي صديقة للعروس. تنضم للفتيات .. امد لها يدايّ .. تصل بالكاد يدها لأطراف أصابعي .. تتشبث بهم وتبدا بالرقص! .. تثبت قدميها علي الأرض وتحرك خصرها مع الموسيقي وهي تنظر للفتيات الملتوّيات بانبهار .. كلما جائت عينيها في عيني تضحك ويضحك قلبي.
     يصل العريس واصدقاءه .. ينضم اصدقاءه لزمرة الراقصين .. يرقصون كالفتيات مع مزيد من الهستريا .. يقفزون ويحركون أيديهم تبعًا لما يسمي بـ"رقصة المطاوي" .. تضج القاعة بالتصفيق والحيوية والضحك .. تقول أحدهم .. "شايفين الرقص .. مش الخيبة اللي كانت فيها البنات .. ماعرفناش نهيص" .. أنظر للجميلة الصغيرة فأجدها قد توقفت عن الحركة .. وفي عينيها وهي تتابع شباب الراقصين ذعر.


***



     يجب أن أكون هناك في ظرف عشر دقائق علي الأكثر .. اسكب نفسي من علي السرير، واعيد نصبي ككائن رأسي أمام دولاب الملابس .. ماذا ارتدي؟
     تعبر علي رأسي كل هذه المشاهد في لحظة .. لاأعرف مَنْ استدعاهم هكذا بالجملة! .. وبكل هذا الوضوح! ..
     أتخذ قراري .. "بلوزة" قطنية وردية بلا نقوش .. بنطال من الجينز الأزرق الهادي .. صندل أبيض كله بلاكعب ولا إضافات، وشنطة بيضاء مثله .. البسهم واضع عطر فواكه منعش .. أشد خطًا بسيطًا لعيني بالكحل .. ثم أنظر لهندامي العام. أضع ابتسامة أخيرة وأخرج. هذا يكفي.
     اليوم لابد أن أكون جميلة .. جميلة في عيونهم.




الثلاثاء، 28 أبريل 2015

خطوات إنعاش القلب


ملحوظة (1): ملهمتي لكتابة هذه التدوينة الجميلة السكندرية "مريم دهب" من وقت مابعتتلي لينك الأغنية دي

ملحوظة (2): الاقتباسات كلها من صفحة "إنعاش قلبي رئوي" علي ويكيبديا 

***
"يعتبر المريض الذي تجرى له عملية الإنعاش القلبي في حالة الموت السريري، وإذا لم يتم على الفور البدء بعملية الإنعاش فإن خلايا الدماغ تبدأ بالتلف غير الرجعي."

      لامجال للتباطوء .. لامجال للتهريج .. الذي يحتاج لعملية إنعاش قلبي هو "ميت" بشكل مؤقت، وإن لم يبدْ عليه ذلك ..
     أما كيف تعرف أن قلبه متوقف؟ فكلنا يتوقف قلبنا ويدق .. يتوقف ويدق. لمّا أرسلت لي مريم الأغنية المذكورة بالأعلي كان قلبي متوقفًا .. ودق مع دق الطبلة وسقف الكفوف القوية .. توقف ودق .. ودق وتوقف علي إقاع الأغنية بالظبط .. حتي استعاد انتظام دقاته.
    لمّا يتوقف قلبك .. لاتعتبر أنه من البديهي أن يدق بعد مساحة دقة الصمت مجددًا. فلربما توقف للأبد .. ربما الدقة القادمة بالذات تحتاج دفعة يد قوية لتأتي العضلة بحركتها. لاتمنع محاولات "إنعاش" القلب ..
     كلمة "إنعاش" في ذاتها خفيفة جدًا وهي تعبر عن رزاز مياه باردة في مساء صيفي حار، وثقيلة وخطرة وهي تعبر عن محاولات إعادة إحياء! .. لاتستخف بمحاولات "الإنعاش" كلها، ففي تجاهل بعضها .. موت!



"خطوات الإنعاش الابتدائي
1-تأكد أنك والمريض بمكان آمن خال من الأخطار."

      أهرب بالمريض .. ابتعدوا قدر المستطاع عن اللغو والضغط والكذب وإصدار الاحكام والأرواح السلبية والاحباطات والتراهات ... انعزلوا –ولو بالخيال- في مكان خال من الاخطار.



"2-اختبر ردود فعل المريض، تأكد من حالة المريض هل يجيب على النداء، على الهز، أم هل هو مغمى عليه؟"

      هل لم يصمد وعيّهُ أمام هول مالاقي؟ أم مازال يجيب النداء؟ أشفق أنا شخصيًا علي الموتي الواعون! .. هم إما مذعورون، أو لامبالون مستسلمون. العين المغلقة أفضل من صاحبة النظرات المذعورة أو اللائمة اليائسة التي تنتظر الأفول. ومع ذلك ميزة الواعي أنه يساعد نفسه –بشكل غير مباشر- بدعم  روح مسعغه. احساس "الأنس" بحياة أخري –حتي لو كانت تحتضر- يشدد الأيدي. الله لم يخلقنا وحيدين أبدًا .. فمن الأزل كان هو هنا. لم نوجد وحدنا أبدًا كأروح.



"3-إذا كان المريض لا يستجيب:
1-اطلب المساعدة"

      لاتغتر بأمكانياتك. عضلاتك تضعف كأي بشري، روحك تتعب كأي بشري .. وقلبك قد تخذله الدَقّة الآتية.



"2-اقلب المريض على ظهره، افتح المجاري التنفسية عن طريق مد العنق"

     مِدّ العنق .. الكرامة من أساسيات الحياة. قد لايُلتفت إليها كحاجة ثانوية، لكنها معبر الهواء لدم الحياة.. أُجبُر الكرامة.



"3-تأكد إذا كان المريض يتنفس بشكل طبيعي (لا تنخدع إذا رأيت نفساً متقطعاً، فإن المصابين بالسكتة القلبية عادة ما يتنفسون في البداية بشكل غير منتظم، هذا التنفس المتقطع لا يعتبر تنفساً طبيعياً ولا يغير من كون المريض مصاباً بالسكتة القلبية وبحاجة لإنعاش فوري!)"

     لاتنخدع! .. لاتنخدع! .. لاتنخدع!. كلهم عادة يبدون في حالة طبيعية .. يتنفسون وعلي مايرام .. مع أن قلبهم معطوب تمامًا! .. لاتنخدع أرجوك! .. أنت الرجاء الأخير لإنقاذهم. لاتنخدع كمدرائهم في العمل، كأسرهم التي يلقون عليها التحية يوميًا حين العودة لمنزل، كأصدقاءهم الذين يضحكون ويلهون معهم، كالبائعين وسائقي المواصلات، والشحاذين، والمارة في الشوارع ... هم ليسوا علي مايرام أبدًا .. قلبهم مريض وسيودي بحياتهم "وسط ذهول المارة"والاصحاب وكل ذوي القربة البعداء -علي حسب التعبير الصحفي اللزج- لاتكن من "المارة" بل كل من اصحاب النظرة النافذة إلي حال القلب .. ولو خدع المظهر.



"4- إذا كان المريض يتنفس بانتظام، إقلبه إلى جانبه ليصل وضعية التثبيت الجانبية حتى إذا ما تقيأ المريض لا تتغلق المجاري التنفسية بالقيء"

     استعادة الذكريات قد يسد المجاري التنفسية .. ويخنق. تأكد من أن الذكريات المؤلمة التي يتقيأها لاتسد مسار الكرامة بالحنين السام، وتؤدي للاختناق.

     

" كيف تتعرف على التنفس الطبيعي؟
-قرب أذنك من أنف وفم المريض وحاول سماع نفس المريض.
-أثناء محاولة سماع نفس المريض حاول الإحساس بالنفس وهو يلامس وجنتك."

     حاول سماع .. حاول الاحساس .. حاول سماع .. حاول الاحساس .. حاول سماع .. حاول الاحساس .. حاول سماع .. حاول الاحساس .. حاول سماع .. حاول الاحساس .. حاول سماع .. حاول الاحساس .. حاول سماع .. حاول الاحساس .. حاول سماع .. حاول الاحساس ..



" الهدف من عملية الإنعاش القلبي الرئوي هو محاولة إعادة دورة دموية صغيرة يمكن أن تنقذ خلايا الدماغ من التلف التام أي الموت الدماغي. من المعروف أن الدماغ إذا قُطع عنه الدم لفترة 4 دقائق فإن خلاياه تبدأ بالموت والتلف، وخلايا الدماغ لا يمكن استردادها"

     خلايا الدماغ لايمكن استردادها .. خلايا الدماغ لايمكن استردادها .. لاتفقد المنطق في سبيل إحياء القلب. القلب يخدم العقل ويعمل بأمره. تذكر أن القلب ليس هدفًا في ذاته. والحب رغم قدسيته ولامنطقيته .. إلا أنه سوف يموت لو لم يُغذي المنطق حتي يرضي عنه، ويأمر بعودة الحياة للجسد كله.



" لاحظ أن الوضعية السليمة هي في كون ذراع المسعف مستقيمة وممدودة وفي وضع عمودي تماما على صدر المصاب، والضغط يتم عن طريق تحريك الجذع وبالتالي الاستفادة من وزن المسعف في الضغط على المريض، وتوفير الطاقة حتى لا يصاب المسعف بالإجهاد الفوري بعد دقائق قليلة!"

     كن "مستقيمًا" في إسعافك. وضع عينك أمام عين مريضك .. ليس المهم أن تكون نبيلًا، ومسعفًا مخلصًا من خلف الستار .. فالتواجد في ذاته شفاء، لاإسعاف من خلف الشاشات أو في المسافات ... تواصل بعينك، و ألقي كل وزنك وخبرتك فوقه! وتذكر .. هذا يقلل من شعورك بالاجهاد اللامُجدي... فالملل.



" نفخ النَفَس الصناعي من خلال الفم أو الأنف:
إن الضغط على عضلة القلب يحرك الدم، والدم يحوي الأكسجين الضروري لإبقاء خلايا الدماغ على قيد الحياة، إلا أن ما يحويه الدم لا يكاد يكفي لبضع دقائق، لذا لابد من تحريك الهواء في الرئتين، حتى تتم عملية تبادل الأكسجين بثاني أكسيد الكربون، النفس الصناعي يتم بعد 30 تدليكة قلبية، على أن تتم العودة مباشرة إلى التدليك القلبي بعد نفختيين."

     القبلة مهمة .. والأحضان التي تعتصر الضلوع مهمة. الهواء يندفع بالقبل، والدم يندفع بالأحضان. لاتتردد في ضغط أنهار الحياة للأجساد المحتضرة .. أتبع سبيل الأطفال في براءة أحضانهم وقبلاتهم اللاشهوانية .. وقوة دفع الحياة والأمل والحب والفرح في الأجساد التي يضمونها ويقبلونها وإن كانت تفوقهم في الحجم والقوة والوزن أضعاف مضاعفة .. كيف ينهضونها من انهيارها بقبلات من شفاه دقيقة ملطخة بالحلوي، واحضان صغيرة دافئة.

     وتذكر أن التردد ليس في صالح الموتي بصفاتهم المتنوعة .. مرضي، ومرضي محتملين (تو انتهاء كل دقة) / مسعفيين حاليين ...

الثلاثاء، 21 أبريل 2015

"أربعتاشر لزقة بجني"



تتعطل الحافلة بسبب الزحام في مدخل القناة الضيقة المخصصة لها بين منطقة "الإسعاف" وموقف "عبد المنعم رياض" .. أتململ .. متأخرة عن موعدي بأكثر من نصف ساعة، موعدي في جوتة والألمان يحترمون المواعيد ..

أنظر من النافذة فلا أري جمالًا .. تكدس وعوادم وبشر متضايقون، الضيق سيد الموقف. المقعد الأخير أمام الباب الخلفي والمنضدة الصغيرة الخاصة بالـ"كومسري" مكان ملائم للمتضايقين .. ينفث عليهم غضب المحرك وأزيزه، فيزيدهم اشتعالًا.
شيئًا يُقذف عليّ يلحقه نداء "أربعتاشر لزقة بجني" .. تعودت نظام البضائع الطائرة من المترو. لبان .. ألعاب .. مناديل .. ولاصق طبي.

أشعر بأنفراجة! .. أخر مرة اشريت "بلاستر" كان في المترو .. وأول مرة أيضًا، لا أتذكر أني اشتريت لواصق طبية في أي وقت من صيدلية، دائمًا ماتطير إليّ لتنبهني إني احتاجها.

احتاجها كثيرًا، ومع ذلك لاأتوقف لشرائها أبدًا. أتذكر أنها كانت لاتنفذ من حقيبتي الأثيرة –التي تفارقني وتعود كالتائب إلي ربه- فدومًا كتيبة جديدة تلحق أخري تحتضر. أبي احتاجها أكثر من مرة .. مرة لجرح في اصبعه بسبب تقطيع السلطة، ومرة بسبب حبّاية تشرع في الانفجار والنزف.

منذ أن قدمت للقاهرة –من أسبوعين تقريبًا- وأنا أفكر يوميًا أني احتاج "بلاستر" لأن صندلي يسبب جرحًا من احتكاكه مع قدمي في مكان مألوف جدًا لجروح الأحذية، رغم أنه –صندلي- ليس جديدًا.

جاهرت بأني احتاج لشراء اللواصق لمّا كان يشتد عليّ الألم، وكنت "أستسهل" فأضع منديلًا لأمنع الاحتكاك والتسلخ طبقة طبقة بين موضع الألم والحزّ الجلدّي.. وأكمل السير. دائمًا ماأكمل السير رغم الألم...

 لاأقصد من الجملة السابقة أي اسقاطات عميقة عن ألم نفسي أو روحي، أتحدث فقط عن ألم جسدي. جسدي ليس شيئًا سطحيًا بالمناسبة، هو أيضًا يستحق أن أتأمل موفقي معه بذاته.

لماذا لم أشتري بلاستر؟ لماذ اسير بأقدام عليها علامات بُنية ثابتة كوشم لجراح المسامير في قدمي المسيح المصلوب؟ ومن دون تضحية حقيقة ..

لو لم يصعد بائعي الرحيم إلي الحافلة ماكنت اشتريتها اليوم، ولكنت مارست سيرًا جديدًا طويلًا بكثير من التقرحات الألم والشكوي. لمّاذا لا أولّي جسدي الاحترام اللائق؟
الجروح المكشوفة خطرة .. اتحاشي أن أحمل جروحًا نفسية مكشوفة طوال الوقت، أهرع للعلاج بشكل هستيري، حتي لو بدت بمنتهي البساطة خدوشًا نفسية لاتحتاج إلا الوقت القليل لتختفي تمامًا . أما جسدي فلا اترفق به. لماذا تملأ قدماي الندوب والكدمات .. ولماذا علي يدي آثار حروق؟ لماذا اُدللــه أحيانًا، وأتوسم منه القوة المبالغة باقي الوقت؟ .. لماذا لم اشتري لواصق طبية طوال الأسبوعين الماضيين مع أني صرفت مبالغ باهظة علي أشياء كثيرة .. وعبرتُ علي عشرات الصيدليات؟

أعطي للبائع الجوّال الذي اختار أن يحمل "لزقات" تضمد الجروح الصغيرة جنيهًا في طريقة عودته لجمع بضاعته. ينزل من الحافلة التي مازالت لم تتحرك. أنظر للورقة التي تضم "الأربعتاشر لزقة" في امتنان .. شكرًا لأنكِ أتيتِ إلي .. شكرًا يارب لأنك تعتني بي حين أهمل نفسي .. شكرًا لشعور "الطبطبة"والتضميد. وشكرًا لجسدي الذي هو –حاليًا- أعظم مني.

الاثنين، 9 فبراير 2015

الموت بكرامة فيّلة





"إنّ الفيلة تشعر باقتراب الموت منها فتغادرفي حالة استطاعتها إلى منطقة معينة لأجل الموت هناك ، وقد تسافر لأجل هذا الهدف أميالاً عدّة."(1)

أشعر باقترابه،
وشوقي سيرافقني أميالًا للقاءه رغم الوحدة ..
لكن أين ياصديقي؟؟
بوصلتي لاتخبرني بأي مكان آمن. 




"عندما تشعر الأفيال بقرب موتها أو بالإنهاك فهي تذهب إلى أماكن المياه، وقد تموت هناك. وبتراكم العظام يصبح ما يسمى مجازًا بمقبرة الأفيال." (2)


وماذا تفعل في مواسم الجفاف؟؟
تشعر "بالانهاك" فـ"تذهب" ..
أنهاكًا فوق أنهاك
ولكن "راحة العابرين في مواصلة الطريق"
البحث عن الحياة لأجل الموت.
قرب الهدف دعم من لاداعم له
أما إذا كانت أماكن المياه مجهولة أو جافة
فالطواف العشوائي كابوس أسود مُذل ..
أصنعوا بِرك صناعية لنموت حولها يااصحاب السلطة والقرار.
ولاتخافوا .. لحظات الارتواء الأخيرة سوف لاتغرينا بالحياة ..
بل –فقط- سترطب شفاة مبتسمة ابتسامتها الأخيرة. 




"ويجب أن لا ننسى أنّ الصيادين يشكلون سبباً رئيسيّاً في موت الفيلة ، حيث يعمل الصيادون على أخذ أنياب الفيلة المصنوعة من العاج من أجل صنع المجوهرات."(1)
رجاءًا لاتقاتلوني لتنزعوا  نابي، إن كان لي ناب ..
أنا ذاهبة لأموت ..
والأنياب لاتتعفن ..
خذوه من جثة فارقتها الروح، سيوفر هذا صرعًا محسومًا.
أتفهم العجلة في جني الأنياب، والعودة بها للأسواق..
صدقوني الكل سيموت .. وستحصون أعدادًا خيالية!
نحن في موسم الهجرة ..
واحفروا بحيرة صغيرة وأقطفوا من شاطئها عاج جثثنا الهادئة ..
اتركوا الجيف الضخمة للضباع ..
أجل أقولها بتسامح ..
لماذا لايستفيد الكل؟





"وأفادت الأبحاث بأن الناس تقوم بقتل الفيلة بشكل كبير ولذلك تم وضعها في حديقة للحيوانات بهدف حمايتها ومع ذلك لوحظ أنّ حياة الفيلة أقل ب 20 – 36 عاماً من الفيلة التي وتعيش في الطبيعة بعيداً تماماً عن تدخل البشر." (1) 
لاتحموني!
أرجوكم .. أرجوكم ..
كردونكم الأمني خنقني
أقفاصكم تُشرّح الصور في عيني.
ساعة في غابتي بفرحة وسلام هي الحياة
و يوم في حديقتكم "الآمنة" هو الكآبة الآسنة،
لأعيش أقل وأموت أكثر
لأنتقل بين جنتين،
ولايهمني المسافات الزمنية عند الخط الفاصل
لماذا تريدون فيلة طويلة العمر،
بروح تثقلها جبال ثلج الشيبة؟؟




" ويعتقد أن الاجهاد وعدم ممارسة الرياضة والبدانة تكون مسؤولة إلى حد كبير عن قصر عمر فيلة حدائق الحيوان." (1) 
والظلم ..
والسخرية ..
وعدم التقدير ..
والتجاهل ..
والترويض!
والألعاب البهلوانية الغبية ..
وغياب الحب وجمال والحرية .. والشغف.




" وبعد انتهاء الدّراسة عام 2005 وعدت حدائق الحيوان معاديها من النّاس من أنّها ستعمل على توفير ظروف أفضل ومشابهة بشكل أكبر للظروف العيش في الطبيعة مما يدفع الفيلة لعيش حياة طويلة مساوية لمدة عيش الفيلة في الطبيعة." (1) 
وعد من لايملك!!
يامعدومي الخيال والحب والطيبة والجمال
يامُعذَبي ومُعذِبي الأرواح
ياعالم الأبالسة لاتطيلوا عمر الأجساد ..
أمنحنونا رصاصة الرحمة ،
بعدما جززتم أرواحنا بمنجل سلطتكم، وفلسفاتكم الفارغة الغبية.





 " وعلى نقيض من البشر تمر الفيلة بهذه المرحلة "تبديل الأسنان " أربع مرات خلال فترة حياتها بدل مرة واحدة كما يحصل مع الأطفال . وتكون هذه الفترات محدّدة لمصير الفيل لأنّه لايستطيع تناول الطعام بسبب فقده للأسنان مما يجعله يتضوّر جوعاً حتى الموت." (1) 
تسقط أسنان النضج المزعوم فنموت!
ماكلنا نلوكه بين انياب الأمس،
صار يخنق حين يُبتلع اليوم!
أسنان المنطق سقطت ..
والذي يبقي من يتجلد حتي تنمو له أسنانًا جديدة
يلوك بصبر فتات الحكمة
أما من يعتصره ألم المضغ فيزهد ..
يموت ..





" والفيلة عاطفية جداً فيما يتصل بالموتى ويظهر توترها وخوفها إذا ما رأت جمجمة فيل آخر، تماماً مثل الإنسان." (2) 
هاهاهاها!
نكتة سخيفة ..
"مثل الإنسان" ؟؟
أي إنسان "يتوتر" أو "يخاف" ؟؟
أي إنسان "عاطفي جدًا"!!
الإنسان ينشر صور الجماجم علي مواقع التواصل الاجتماعي
يطبعها علي قمصانه، وتلبسها الفتيات الرقيقات الــ"عاطفيات" كحليّ
دعنا من الإنسان ..
لم يأت ذكره في السياق إلا في نزع الحرية،
وجشع الرسمالية ..
والحلول الغبية لــ"إطالة" الحياة!

يازومبي الكوكب! 




رابط المقالة (1) كيف يموت الفيل
رابط المقالة (2) فيل - ويكيبديا

الأحد، 8 فبراير 2015

"المرحوم كان غلطان"




الشهادة الأولي: واحد ...

الموضوع بقى نكتة! .. نكتة زي حاجات كتير في حياتنا بنسف عليها. الغريبة أنك ممكن تتريق علي أي حاجة وأي حد طالما الموضوع بعيد عنك، بس لو عشته .. ، هاتلاقي النكتة بتوجع .. أنا الموضوع دا رغم أني ماعشتوش، بس بيوجعني!
***
قالك أن لمّا مشروع السد بدأ .. الخواجات جم ومعاهم عربيات، أهل أسوان بقي ماكانوش لسة متعودين علي غشومية السواقة .. فماكنوش بيبصوا يمين وشمال قبل مايعدوا الشارع .. بتطصهم العربيات ويموتوا مدهوسين ..
***
عارف النكت اللي بتبدأ كلها بــ"الله يرحم جدك كان ..."؟؟ النكت دي مابتضحكش غير اللي بيقولها .. "اللي يرحم جدك، ماعرفش الجزمة غير لمّا أضرب بيها" .. تخيل لو قولتها لسعادتك هاتحس بالإهانة أكتر ولا هاتضحك؟؟ .. أول مرة واحد قالي دي فضل يضحك لحد مافتحت دماغه وخد عشرين غرزة.
***
"المرحوم كان غلطان" ..... هي مقصود بيها المرحوم كان "مغفل" .. كانوا فلاحين ولسة مايعرفوش العربيات .. إيه ذنبهم؟؟ .. غلابة .. زي ماأحنا لحد دلوقتي غلابة! .. زي ماأبويا لحد دلوقتي مش بيعرف –لمؤخذة- يستخدم الحمام الأفرنجي .. موضوع مايضحكش.
________________________________

الشهادة الثانية: واحدة ...

ماكانوش بيعرفوا يستخدموا الآلات الجديدة بتاعت الحفر.
***
أي شغل فيه نسبة خسارة في الجدعان، حتي الحرب لو مات فيها ربعها تبقي مش خسرانة، وهما كانوا جنود السد. قدر الإنسان هايجيله حتي لو علي سريره. الظابط بيموت وهو بيشتغل، زي الظابط خالد أبن جارتنا الله يرحمه اللي اضرب عليه نار في الكمين .. والدكتور بيموت وهو بيشتغل، زي الدكتور عبد الغفار أحسن دكتور باطنة في البلد، وسبحان الله مات بالمرض الوحش .. والفواعلي .. ، مش لأنه قليل .. بس لأنه بشر ..
***
اللي بيموت وهو بيشتغل يبقي شهيد .. شهيد وهاياخد بإيدينا للجنة في الأخرة، زي ما بإيده هنا حاول يعمر الأرض في الدنيا.
***
لأ مش زعلانة من حد، ولا بلوم حد .. ماحدش بياخد أكتر من نصيبه. واليوم اللي ربنا محدده للواحد، والموتة اللي هايموتها مكتوبين من قبل الكون مايكون. كون أنه نشف ياحبة عيني من الكهربا اللاتلي عامت في المية تحت رجليه وهو بيحفر، فدا قدره ونصيبه .. ثم أزعل ليه؟؟ دا بطل ومن بناة السد .. كل مصر وكل الأجيال أكيد مقدرة عظمة رسالته.

___________________________________________
الشهادة الثالثة: واحدة ...

دا اللي بتعمله الحكومات دايمًا .. أراهن أن فكرة نقش "المرحوم كان غلطان" علي توابيت المتوفيين من بناة السد فكرة حكومية صرف.
***
تطييب خاطر .. زي شهداء 25 يناير كدة اللي اتسمي بيها شوية مدارس وميادين وجناين علي طول مصر .... وبعدين ؟؟ حصل إيه بعد الاحتفاء بالاسم؟؟
***
أصل لو المرحوم غلطان عمدًا .. يبقي مالوش ديّة، وتقريبًا دي الحالة المرجحة لأن ماحدش كان بياخد تعويضات .. انتحر بغباء يعني .. وفي الحالة دي ماتجوزش عليه الرحمة ... ولا إيه؟؟
***
"المرحوم" .."الشهيد" .. "البطل" .. "بناة السد" .. ألقاب .. مشكورين، طب وبعدين؟؟ هات شحات وقله أنت خدت لقب الأستاذ الدكتور الاستشاري العظيم .. بس مش هانجبلك عشا... الرحمة عند ربنا بس.

_____________________________________
الشهادة الرابعة: واحد ...
أول مرة سمعت المثل دا كان في الأردن ..، علشان كدة استغربت قوي لمّا سمعت الروايتين بتوع النوبة .. وأن الموضوع أصله كان وقت بُنا السد العالي. بس تقريبًا دي نشأته الحقيقة لأني في كل مرة كنت بسمعه في دولة عربية، كنت بسأل علي أصله ومش بلاقي قصة .. متداول بس.
***
دا أكتر مثل بيسوق لنفسه أنه يبقي موجود في كل الوطن العربي .. كلنا تجوز علينا الرحمة، كلنا في نظر حكوماتنا غلطانين .. وتقريبًا الحكومات ماتعرفش حاجة عنه. لو جازت التسمية يعتبر "من أمثال المقاومة".
***
مرة كنت في جنازة صديق مصري بيشتغل طبيب في السعودية مات بسبب خطأ طبي، وكانت أكتر جملة متداولة بغضب من السعوديين .. "المرحوم كان غلطان" علي سبيل السخرية من اللي عالجوه غلط، وماعرفوش يلحقوه .. لمّا عرفت الروايات الأصلية وربطهم بالاستخدام دا، وصلي استنتاج مباشر أن الشعوب عمرها ماصدقت أن "المرحوم كان غلطان"!
***
سمعته بعد كدة في في السودان .. وعرفت أنه منتشر، بين المقهورين بس، سواء متسامحين وبيطلبوا الرحمة .. أو ناقمين وبيرفضوا الاعتراف بالغلط.




 ___
(علي هامش ورشة "أحكي ياتاريخ" بجزيرة سهيل-أسوان.. وحكايات بناء السد من المصادر الشعبية.)

رابط صفحة أحكي ياتاريخ احكي ياتاريخ علي فيس بوك