الثلاثاء، 8 يناير 2019

الرجل الذي ظننته أنت يالله




لم يكن في خطتي التوقف في استراحة علي الطريق، كنت أريد الوصول في أقرب      فرصة. ربما رغبتي في بلوغ الأسكندرية مبكرًا قدر الإمكان، هي صدي لجوعي النَهِم للـ"وصول" .. بلوغ مستقر لاأعرفه بالظبط. أقود بسرع أعلي من المقررة رغم أنه مازال هناك أكثر من ثلاث ساعات علي موعد اجتماع العمل. أنهار في بكاء مفاجئ فأضطر 
للتوقف في أقرب استراحة.
أركن السيارة وأرتدي نظارتي الشمسية وأخرج لأجلس في أول منضة في المنطقة المكشوفة. أكره سذاجة نمطية فكرة أن كل فتاة بلاحلقات في أصابعها تبكي في مكان عام، لابد أنها تعاني من مشكلة عاطفية. فكرة غبية ومضحكة ومستفزة .. أود لو أخبر الجميع حولي أنه لم يقل لي "خلينا أخوات" أو "أنتي تستاهلي حد أحسن مني" .. بل الله مَن قال لي "أنتي لاتستحقي أي شيء حسن علي الإطلاق"، حسنًا يالله .. أنا أعترف.. أنا كذلك، فلينتهي حوارنا الآن وأبدًا دون أي صراعات إغريقية. لكني أفضل بدل من أي إجابة، أن احتفظ بنظارتي السوداء وامنع التساؤل من الأصل.
تجري اصابعي لهاتفي المحمول بحركة لا إرادية .. أفتح الأنترنت، تنهال رنات الرسائل وتزاحم بعضها البعض. أزيحها كلها بأصبع واحد لسلة القمامة الرقمية.. كلها قمامة أنا غارقة فيها.. قمامة فتشت فيها مِرارًا -مثل المشردين البائسين- علي بقايا مايسد الرمق فلم أجد ماشيبع أبدًا. رسائل جافة عفنة حتي مايبدو عاطفيًا منها، فلابد أن يخفي وراءه طلب أو مصلحة ما.
أفتح محرك البحث وأكتب بأيد مرتعشة وأنجليزية صحيحة "الانتحار أثناء القيادة"، فتأتي نتائج البحث عن حوادث مشهورة لسائقين منتحرين أزهقوا أرواحًا معهم، وضرورة الفحص ضد الأمراض العقلية لسائقي التاكسي بأمريكا. ألقي الهاتف في غيظ. يأغبياء لست مريضة عقليًا، وأنا وحدي في سيارتي الخاصة التي اشتريتها بمالي. لم ولن أؤذي أحدًا، بل اريد أن أمنع الأذي الأدبي عن من انتسب له، سواء كان شعور بالذنب أو الخزي بأن صديقتهم -أو قريبتهم- منتحرة. أريدها أن تبدو حادثة عادية .. قضاء وقدر، فقدري الحالي أبشع كثيرًا من حادث سيارة أرقد بعده في سلام. كما إني لاأريد أن أعيش بعاهات تكلف الدولة أمولًا في علاجي من تأميني واسع التغطية، وسريرًا قد يحتاجه محب للحياة .. أفهكذا أُتهم بالمرض العقلي؟؟ فكيف إذن يفكر العاقلون العمليون؟؟
يعتصرني الصداع فأنهض لأحضر بعض القهوة. أقف في طابور طويل .. أغمض عيني وأشعر بالألم يطوّق رأسي .. أصل أخيرًا للـ"بار مان" الواقف أمام مكينة التحضير السريع.
-كنت عايزة آآآآ ...
-ماسكة راسك ليه؟
صمتُ! .. وأنتبهت أني أضغط بأصابعي علي جانبي صدغي بقوة. رد فعلي التلقائي علي مثل تلك الأسئلة طوال الوقت "وأنت مالك!" لاأعتبرها "قلة ذوق"، بل الرد اللائق بالتعدي علي المساحات الخاصة .. لكن ابتسامته -من سط ضباب بقايا دموعي، وضغط الألم في رأسي- كانت أبوية وحنونة جدًا .. لم استطع مقابلها إلا أن أخفض يدي وابتسم:
-مصدعة شوية.
-سلامتك ..
لاأعرف كيف يكون الرد علي اللطف في العادي .. تذكرت "الله يسلمك" بعدما استأنفت القيادة، واسترجعت المشهد أكثر من خمس مرات في رأسي. استفقت علي كحة مصتنعة من الواقف خلفي في الطابور يتعجلني لأطلب، أما هو فيبدو هادئًا ومتمهلًا جدًا كانه لايري غيري في المكان.
-هاتشربي إيه؟؟
- آآ .. قهوة سادة دوبل.
يضضم حاجبيه في غضب خفيف بلاتصنع ويتسأل ..
-أنتِ فطرتي؟؟
مرة أخري كنت سأرد بحسم، لكني وجدتني أمامه كطفلة أمام أبٍ حنون وحازم لايصح معه الكذب..
-لأ ..
-مصدعة يعني ضغطك عالي، والقهوة بترفع الضغط أكتر، ومش بتتاخد علي بطن فاضية. روحي جيبي سندوتشات من الشباك اللي هناك وتعالي هاديكي قهوة، بس بعد الأكل.
في أي وقت غير هذا، كنت في ظرف دقائق تسببت في رفد هذا المتطفل -في عقيدتي- من عمله، بعد أن أتشفي في إهانته من مديره، عقابًا له علي تطاوله. لكني وجدتني انسحب من الطابور، وأبحث عن منفذ الطعام وأذهب إليه!
طلبت رغيفين واحد بالجبن والأخر بالمربي، استلمتهم وعدت سريعًا لطابور المشروبات. ليس لأني اتعجل الحصول علي قهوة، بل لأني أريد أن أُريه كم أنا "شاطرة".
أقف في الطابور رافعة الطبق الخفيف والخبز يبرز منه وأنا أنظر نحوه، فيبادلني نظرات الرضا وهو يقضي لباقي الزبائن طلباتهم. أصل إليه فأشعر أنه ينظر في عيني ويراها! .. لايسألني عن طلبي، بل بحركة أوتوماتيكية يعد القهوة ويمد يده لي بها :
-أنا حطيت حبة سكر صغيرين مش هايفرقوا في الطعم ولا المزاج بس هافرقوا في الصداع ..
يمد يده بالقهوة فأمد يدي، فريجع بيده للخلف :
-بس بعد الأكل ؟
أرد :
-حاضر
تحت وطأة نظرته النافذة واضطرابي ترتعش يدي أول ماتمسك بالكوب، فيمسك بيده فوق يدي ..
-علي مهلك ..
أعود لمنضدتي في المنطقة المفتوحة .. تنسحب إليها الشمس أول مااجلس كنجمة يُسلط عليها الضوء، أشعر بقشعريرة في جسدي كله، وبدفء في أعماقي يؤيده ضوء الشمس علي جلدي. أتناول الطعام بنهم واستمتاع لم اختبره منذ شهور -وربما سنوات- وارتشف القهوة بعينين مغمضتنين وروح طفلة تمرح في حديقة مُتخَيلة.
يفارقني الصداع فأنهض لاستكمل رحلتي. احاول أن أودع رجل القهوة بعيني فلا أراه من الزحام أمامه. أركب السيارة.. أقبض يدي اليمني كأني أمسك بكوب وهمي، واضع فوقها يدي اليسري لأستشعر موضع يده علي يدي بأشعر بحنان قد كسي جلدي ينتقل من ظهر يدي اليمني، لباطن يدي اليسري ثم لقلبي فيضخ دفئًا لذيذًا لكل خلايايّ.
أضع حزام الأمان وأنطلق وأنا أفكر فيما فعله هذا الرجل!! .. كيف انتبه لي بكل هذا الاهتمام، وسط كل هذا الزحام! كيف ميّز معاناتي وألتفت لها، ولماذا فعل؟ كيف ولماذا كان اهتمامه حقيقيًا جدًا وغير متكلف علي الإطلاق! .. كيف بدل حالتي وحالة العالم من حولي ببعض كلمات ونظرة ولمسة! طبيبي النفسي لم يفعل هذا -ولا جزء منه- في شهور من العلاج.. فكيف فعلها هذا في دقائق! هل يملك قدرات سحرية خارقة! هل كان هو الله!! ..
أدير زر الراديو لأشوش علي أفكاري.. فتشدو أم كلثوم "ياللي حبك خلي كل الدنيا حب .. ياللي قربك صحّي عمر وصحّي قلب" .. أجل .. أجل كان هذا أنت يالله.