الثلاثاء، 30 أبريل 2013

"بأتنين ونص..."





رغم أن الفضائيات ونظام الحياة وإمكانية تنزيل الأفلام على الحاسوب .. كل هذا جعل كل الأيام مناسبة للمشاهدة، وأفقد يوم المتعة والترفيه رونقه .. إلا إنه هاهو ذا، إنه الخميس ! .. ترد "ريهام" .. "واللبّ والأحلام فى كيس". هكذا ردها دائماً منذ خطبتهما حتى الآن، تعشق جاهين وتحفظ قصائده، خاصة قصيدة "يوم الخميس". سلّما أولادهم طقس تقديس الخميس لمشاهدة الأفلام والمرح .. واليوم هو هو.
يجلس "العفاريت" -كما يسميهم- على سجادة الصالون .. يستندون بظهورهم إلى الأريكة التى يجلس هو عليها. تجلس سلمى –الوسطى- فى قفص وهمى، قضبانه من ساقى أبيها.. تتشبث بشدة بقدماه وتستند رأسها على ركبته بينما يلعب هو بخصلاتها الناعمة. "سامر" و "سامى" –الأكبر والأصغر- يلهوان بقطارات تدور على قضبان منصوبة متداخلة .. كانت هذة اللعبة حلمهما، واجتهدا بسببها عاماً دراسياً كاملاً حتى يحصلا عليها -كجائزة دولية- بالمناصفة.


"ريهام" فى المطبخ تصنع الفيشار والحلوى استعداداً للسهرة التلفزيونيّة. حاول "مدحت" أن ينتقى مايشاهده أولاده حتى ينمى لديهم ذوقاً فنياً رفيعاً –كالذى عند أمهم- لكنه كسائر أباء هذا الجيل أفلت منه الزمام تماماً .. الأفلام صارت فيرس يفترس الأطفال –والكبار أيضاً- يصيب لوازم كلامهم، أسلوب حبهم، أماكن وأساليب ترفيههم، ملابسهم، مشاعرهم، كل شىء .. أنه الطاعون ولا شىء سواه !


فلم كوميدى يدور على شاشة التلفاز، ينتبه له الأولاد فيضحكوا ثم ينصرفون عنه لألعابهم ليعودوا إليه مرة أخرى بعد قليل، يتاجذب انتباههم مع الألعاب بينما يتجاذب انتباه "مدحت" مع انتباهه للأولاد .. يشعر برضى يكاد يتخذ شكلاً مادياً ! كأنه طبقة من الكريمة الدافئة تغطى صدره! يشعر بتأثيره على أنفاسه واحساسه بالأمان والمتعة.


شىء فى قلب الكريمة الهشة الدافئة الناعمة يبدو قطعة صلب صدئة، إذا حاول الامساك بها أفسد كل شىء ! .. يحاول أن يمد يد المنطق بهدوء ليستخرجها، أو حتى ليعرفها لكنه يتراجع .. يقرر أن يحافظ على شكل الحلوى الجميل الشهى، ولا داعى لافسادها بهواجس قد تكون خاطئة من الأساس.


يمر مشهد كوميدى على الشاشة، يرفع "سامر" عينيه أثناء اللعب ويتابع .. يبتسم ثم يضحك .. يضحك "سامى" و"سلمى" دون يفهما المشهد.. ثقتهم فى أخيهم وتبعيتهم له تجعلهم تلقائياً يشاركونه ردود أفعاله. يتابع "مدحت" معهم المشهد ويحاول أن يبتسم .. يحاول مرة أخرى وأخرى –على طول المشهد- فيفشل! أخيراً تهتز ذقنه ويبكى بعد أن فشلت محاولاته. يضم شفتيه بقوة ليخرس انفعاله فتصدر رغماً عنه شهقة مكتومة، ترفع "سلمى" عينيها الجميلتين إليه.. "بابا أنت بتعيط ؟ .. بابا ؟" ثم تنفجر فى بكاء هستيرى وتنهض على ركبتيها، تدور لتواجه أبيها .. تدفن رأسها فى بطنه وتخبط صدره بيديها الصغيرتين.. يصاب الولدان بدهشة تجعلهما يتسمران وهما يراقبان والدهما وأختهما .. يطول تجمدهما أمام المشهد السيريالى، يحتضن "مدحت" أبنته ويطلق لبكاءه العنان ...


تهرع "ريهام"  ريهام من المطبخ ممسكتاً بمغرفة بآثار "الآيس كريم" "فى إيه ؟؟ .. مدحت فى إيه ؟؟ مالها البنت ؟؟" .. ينظر "مدحت لريهام بحيرة ..

-مافيش
-أمال يتعيطوا أنتوا الأتنين ليه ؟؟؟
-مش عارف !

تنظر له وللولدين –اللذان مازلا فى وضعهم الصنمىّ- وتشم روح الجنون تكتنفهم كلهم ، وتشعر كأنها تريد أن تحمى فمها وأنفها بيدها كى لا تستنشق غاز الهلوسة الذى تسبب فى لحالة لاتفهم لها سبباً. أخيراً يقرر مدحت تحرير الوضع .. ينزع "سلمى" من حوله برفق .. يسلمها لأمها التى تحملها وهى تنظر إليه فى اندهاش، يوجه خطابه لولديه محاولاً تطمينهم بعد أن أشفق عليهم ...

-بابا كويس هو بس تعبان شوية .. مش هاقدر أشوف معاكم الفلم النهاردة ..
يسير بهدوء فى اتجاه حجرته.. يظل الوضع كــ"كادر" ثابت إلى أن تقرر ريهام لصق قطع الزجاج الشفافة التى انفجرت بشكل غير مرئى واصابت الجميع .. تضع "سلمى" على الأريكة .. تسير بسرعة باتجاه المطبخ..
-عملتكم سلطة فواكه بالأيس كريم اللى انتوا بتحبوها ..
تعود وهى تحمل صينية فوقها تلاتة كؤوس شهية. كأنها حملتهم لكوكب أخر فى طرفة.. يجروا باتجاهها وهم يضحكون ويصيحون.. ترفع الصينية بأعلى من قاماتهم ..
-اقعدوا على الأرض وكل واحد ياخد الكاس بتاعه علشان ماتوسخوش الدنيا ..

يصطفوا وظهورهم للأريكة .. تعطى كل واحد كأس وملعقة ، تراقبهم لنصف دقيقة حتى تطمئن أن كل شىء على مايرام ثم تسير بسرعة باتجاه حجرة النوم...

تفتح الباب وتقف مستندة إليه
-فى إيه !
-مافيش..
-مافيش أزاى !! .. أنت أول مرة تعيط قدام الولاد
يطرق برأسه وهو يعطيها ظهره ..
-صدقينى مافيش .. أنا بس مرهق من الشغل شوية
-ماأنت على طول بتبقى مرهق من الشغل، وبتضحك وتلعب مع الأولاد عادى.. إيه الجديد ؟؟
-ريهام .. ممكن تعذرينى، أنا هاخرج أتمشّى شوية..
-أنا مش فاهماك يامدحت .. من أمتى بتبقى مضايق من حاجة ومش بتشاركنى ؟ إلا بقى لو أنا سبب ضيقك دا ..
-أبداً ياحبيبتى .. بطّلى ظنك دا، أنا بس مخنوق شوية .. أرجوكِ ماتقلقيش خالص وخليكى مع الولاد وأنا هاتمشى شوية أشمّ هوا وأجى ..


كان يقول كل هذا وهو يرتدى ملابسه بالفعل .. فلم تجادله، لتكن شريكته فى القرار حتى ترى نهاية الأمر ..


يخرج .. يمر أمام الأولاد وهو يبتسم محاولاً طمأنتهم، بينما هم لم ينتبهوا إليه أصلاً، يسير خارج البناية ويخرج للشارع الرئيسى وهو لايعلم وجهته ..


يسير .. يفكر فى إجابة السؤال الذى ولد فى عينىّ سلمى، ونما فى أعين "سامى" و "سامر"، ونضج حتى صار وكيل نيابة ناطق ذى صلاحيات فى عينىّ "ريهام" .. لماذا بكى ؟؟ .. يسترجع المشهد التليفزيونى الذى بكى أمامه ليحصل على جواب ..


كان بطل الفلم يفترش سوقاً .. يضح بضاعته الرخيصة أمامه على لوح وينادى "بأتنين ونص .. بأتنين ونص .. بأتنين ونص" بمنتهى الهمة والنشاط، يأتى إليه "زبونان" رجل و إمراءة .. يسألانه عن أسعار بضائع معينة فيقول أسعاراً أعلى قيمة وهو لايعيرهما انتباهاً .. بينما يواصل حماسه ونداءه .. "بأتنين ونص .. بأتنين ونص".


مجرد تذكره للمشهد أهاج مشاعره من جديد .. يبكى فى الشارع ! .. يركن إلى مقعد جانبى فى حديقة عامة ويدفن رأسه بين كفيه ويبكى أكثر وأكثر .. يالله! كيف لهذا المشهد أن يكون فكاهياً بأى حال! أنه المشهد الرئيسى لشرخ روحه! .. أنه هو .. هو ذلك الزبون الساذج الذى يعرج إلى الباعة الذين يرى فيما يقدمون قيمة تساوى مالديه .. فإذا به بعدما يصل يفاجأ بخداعهم .. بكذبهم! .. يقولون له أن مراده أغلى، وأن مالديه لايساوى بضاعتهم .. يتركونه يرجع خاوياً .. وبهذا كانوا يجرحونه كثيراً.


أنه هو ذلك البائع الذى ينادى بحماس على بضاعته، يقول أنها زهيدة وأنه متشوق لزبائنه، يروج لنفسه قبل بضائعه. فلمّا يقترب منه من يرى فيه الصورة التى سوّق نفسه بها يصدمهم بتجاهلهم! .. يصدمهم بتغيير كلامه فى نبرة صوته الخافتة الوديّة عن النبرة العالية الإعلانية الاستعراضية .. وبهذا كان يجرحهم كثيراً.


يتذكر "راندا" حبيبته الأولى التى روج لها كثيراً أنه حبيب مثالىّ، وأنه على استعداد لفعل أى شىء لأجلها .. فلما أقتربت إليه فجأها أن طموحاته ليست "بأتنين ونص" بل ربما بمئات وألوف الأضعاف .. فلن يرضى أن يسكنا معاً شقة صغيرة متواضعة، ولن يرضى بمستوى ملابسها البسيط المحتشم .. فسيكون مدير عام –كما هو الآن- يسكن فيلا كبيرة، وزوجته يجب أن تكون كزوجات رجال الأعمال .. ترتدى ملابس السهرة المكشوفة، وتضع المساحيق الغالية وتصبغ خصلات شعرها كما الموضة الباريسية كل عام. رفضت، فنسب الرفض لها وارتاح ضميريّاً، تركها تنسحب بهدوء مكسورة الخاطر والكبرياء أعاد المناداه "بأتنين ونص .. بأتنين ونص" ليجتذب "زبونة" أخرى وأخرى .. كثيرات مرنن عليه حتى وصلت إليه "ريهام" التى اعطته عمراً جديداً نقياً، كانت هى توبته وكفارته عن أحلامه "النصّابة" .. لكنه لم يتب عن ماضيه قبلها !


يتذكر "رشاد" يشعر بغصّة فى حلقه مع احساس عميق بالإهانة .. كان أبيه الروحى على كل المتسويات، قوته ومثله الأعلى .. كان نبياً فى عينيه. كان يحب الأدب والثقافة مثله، وكان يعمل فى نفس مجاله، كان يحبه لدرجة أن ملامح وجهة بدأت تعيد تشكيلها ذاتياً لتأخذ من ملامحه، حتى كان كل من يراهما يظنه أبنه بالجسد! .. حتى اكتشف أن أغلب كتاباته سرقات أدبية، وأن مبادئه المثالية نظريّة، بل أنه يخالفها فى الواقع غالباً، أكتشف أنه مختلس ومزور، ولمّا واجهه اعترف بابتسامه صفراء مُبرراً أنّ "السوق عايز كدة" و "لازم تاكل اللى قدامك قبل ما ياكلك" و أنّ "المثاليات ماأتكلش عيش" .. ربما كانت هذة من أكبر صدمات حياته، حينما أعتقد أن البضاعة ذات "أتنين ونص" لن تباع أبداً بالثمن الذى أعلن لها، وأن الكلام الودى ساعة الشراء مختلف تماماً عن الصيت! .. كلما تذكر "رشاد" حتى الآن يشعر بأنه يكره كل تفاصيله، يكره حتى نفسه فى الفترة التى كان مصدقاً وتابعاً لهذا الكيان البغيض الكذّاب.


ياإلهى! .. كيف لمشهد كهذا أن يصير فكاهياً ؟؟ أى مأساة يضحك البشر عليها ؟؟ يشعر بالشفقة الكبيرة على أطفاله .. اليوم يضحكون وغداً سيبكون، وعلى نفس الموقف! .. يرون اليوم البطل كوميدياً ..وغداً سيرونه نصاباً خسيساً. يرون "الكومبارس" المشترون مغفلين .. وغداً سيعرفون أن كل خطيتهم هى أنهم صدّقوا .. فقط صدقوا !
يشعر بالشفقة على "سلمى" .. تجتاحه الرغبة فى أن يقتل كل الكذابين -حتى من يدعى الفكاهة منهم- حرصاً عليها، أما غير المستقمين –لو كانوا صادقين- فلاخوف منهم، من يسقط معهم فسيسقط بكامل رغبته الحرة .. ولاحكر على الحريات فى سبيل المثاليات فليخطئ من يخطئ مدام يريد هذا غير متورط.


يفكر فى "سامى" و "سامر" .. لايريد لهم أن يتعلموا "التسويق" لأى شئ فى مشوار حياتهم –ولاحتى أنفسهم- بطريقة "أتنين ونص" ويفرحوا بتوافد الزبائن من كل حدب وصوب، بينما هم فعلياً ليس لديهم بضائع بهذا السعر .. سوف لايكترثون بانصراف الزبائن مكسورى الخواطر، سوف لايعرفون أن هذا يورثهم لعنة أبدية كالتى يشعر بها الآن.


يغرق فى التفكير .. يمر شريط حياته أمامه يرى فيه مشهداً واحداً مكرراً، مرة يكون هو مكان البطل البائع و مرة مكان المشترين. يفكر فى حياته كحلقة نصب مملة وهو فيها نصاباً أو منصوباً عليه. يجفف دموعه .. يشعر ببعض التطهر، ينظر فى ساعته فيدرك أنه قد تأخر، ينهض ويسير فى اتجاه منزله ...


يدخل منزله بهدوء كى لايوقظ الأولاد إذا كانوا قد ناموا. يرى ريهام مددة على الاريكة تتابع فلما على التلفاز وحدها. يسألها عن الأولاد فتخبره أنهم ناموا بعد انتهاء الفلم. تنظر إليه طالبة تفسير عن ماسبق. يباغتها بسؤال .. "ريهام .. أنتى بتشترى من الناس اللى بينادوا على بضاعتهم فى السوق ؟" .. تصمت لعدة ثوان محاولة فهم مغزى السؤال ثم تجيب بعد حيرة ..

-"آه طبعا .. عادى .. فى مشكلة؟"
-"لأ.. بسأل بس .. وتشترى منهم بالتمن اللى بياندوا بيه؟"
-"لأطبعاً !"
-"ليه؟"
-"علشان هما نصابين وعارفين أنهم نصابين، ومتأكدين مية المية أن ماحدش هايشترى بالتمن اللى بينادوا بيه من غير مايفاصل .. وإلا هايبقى مغفل ومغلوب. دا حتى الأجانب اتعلموا الفصال .."


يندهش جدا  من فطنتها ! ثم من جديد يبكى، ينهض ويحتضنها وهى متسمرة مكانها

-"ريهام" .. قد إيه أنا فخور بيكى، ومطمن على ولادى أنك أمهم اللى بتربيهم، سامحينى يا"ريهام" وأدعى ربنا يسامحنى .. وأدعى ربنا يعوّض كل حد صدق بحسن نيّة واشترى من غير مايفاصل ..

لاتفهم شيئاً على الإطلاق، لكنها –بفطنتها- تدرك أن الكلام ليس سطحياً، وأن مدحت متألم جداً .. تعرف صوته جيداً، واحساسه يهز ضلوعها ..
-مسامحاك .. وربنا يشفى كسرة قلب المجروحين ...
يتنهد من قلبه ..
-أمين.

السبت، 13 أبريل 2013

طلاق ...





لم أكن أفهم أبداً معنى كلمة "طلاق". منذ كنت طفلة صغيرة اسمع أمى تطلبه، وحتى حَصُلَتْ عليه لم أفهم ماهو، أو كيف هو؟ وحتى كنت أطالب أنا به وحصلت عليه لم أفهمه .. لم أفهمه قبل الآن! .. والآن فقط فهمته.


كنت أتسأل منذ التاسعة وحتى طُلِقت .. كيف لمن هو زوجى أن يصير غريب! كيف لمن تشاركنا الفراش والغطاء والبكاء والضحك والأكل واللعب والمعالق والأكواب والمناشف ومشاهدة الأفلام وتمشيه شراء الملابس ومبادلة الأحذية المريحة و غيرها وغيرها.. أن نصير بين يوم وليلة أغراب!


لماذا لايُفسَخ عقد الأبوة أو الأمومة أو البنوة أو الأخوّة .. ويسمح فقط بفسخ عقد الزواج ؟ مع أنّ لهذا العقد مايميزه. فكل العلاقات السابقة فُرضت فرضاً على الإنسان .. يستقظ من غفوة العدم فيجد نفسه عضواً فى أسرة هؤلاء اعضاءها.. قليلون يحتجون على تشكيل الفريق الأسرىّ الذين وجدوا أنفسهم فيه، يذهبون للانتداب كلاعبين فى وطن أخر ومجتمع آخر. البعض لايملك الشجاعة الكافية لتمزيق العقد وإنهاء التعاقد والاستضافة بشكل كامل فيحافظ على خيط رفيع متهرئ ليُسكت ضميره والمجتمع بنداءات "صلة الرحم" اللاعقلانية. كيف لـ"رحم" أن يتحكم فى حياتى ويسود على العقل والقلب ؟؟ .. كيف لروبط الدم –السائل- أن تكون أقوى من روابط العضلات العاطفية التى تنمو وتتغذى على تمارين الحب ذات الاختيار الحر ؟


منذ طُلِقت من "رفيق" وأنا اعتبره زوجى مع وقف التنفيذ. أحبه، أخاف على كرامته وسيرته وكل مايخصه .. اُشاركه بشكل روحى كل تفاصيل حياتى كما كنّا نفعل فى فترة زواجنا .. أصبح نشيدى اليومى أغنية فيروز "كيفك أنت" .. أناجيه بها كل صباح ومساء. فى نقلات الفصول اُخزن ملابسه الصيفية أو التشوية بعناية وأعيد غسيل وكىّ الأخرى لتكون جاهزة لاستخدامه فى حال عودته أى وقت. لم أتوقف عن طبخ الطعام بالطريقة التى يحبها، كنت انظر لباب منزلنا وأنا أضع الطعام على الطاولة لكل وجبة .. هيا تعال الآن –لابعد ربع أو نصف ساعة- لتأكله وهو ساخن كما تحب أن تأكل طعامك دائماً.


عندما ترى صديقاتى نمط حياتى الملتبس به يشفقن علىّ "إذا كنتِ تحبينه كل هذا الحب .. فلماذا طلبتِ الطلاق واصررت عليه ؟!" .. هن لايعرفن، لايعرفن أن أن "رفيق" الذى طلبت منه الطلاق ووافق عليه بلاجدل لم يكن هو "رفيق" الذى أحببته وأحببنى، وليس هو رفيق الذى أحيا مع شبحه الآن. "رفيق" الذى ذهب كماء خلف بوابة أندفع بقوة بمجرد انفتاحها ليس "هو" رفيق الشجرة ذات الجذور الذى كان مصدر كل الظل والثمر اللذيذ فى حياتى .. هذا الأخير كان بالنسبة لى ثابت راسخ لايحركه شىء ولا أعتى العواصف، لايمكن أبداً أن يغير مكانه ولاأن يذهب لأى مكان خارج جنتى .. فإذا ذهب فهو ليس هو.


اليوم رأيت "رفيق" الذى لم يعد فيه شىء من الذى كنت أعرفه غير اسمه .. بل أنه غيره هو الآخر على الأرجح! .. كنت أعرف أنه تزوج وأنجب، عرفت هذا من خلال أصدقاء مشتركين ومن قلبهم عرفت عندما أخبرتنى فيروز "كيفك؟ قال عم بيقولوا صار عندك ولاد"، لم يضايقنى هذا أبداً، فزوجى سوف يعود إلىّ لأن بيننا صلة روح لايمكن قطعها، أما هذا الآخر فهو زوج لأخرى لاأعرفها ولاأعرفه.


كان يسير فى "المول" مع زوجته وطفلته الجميلة كأمها، لم انتبه له. كنت واقفه أمام "فاترينة" لعرض ملابس الأطفال، أعجبنى فستان لطفلة فى عمر عام .. اعجبنى جدا حتى أنى رفعت عينى لأحفظ اسم المحل حتى عندما يعود "رفيق" أتى به لهنا لأريه الفستان ونشتريه أو لانشتريه –حسب ماتنفق- لطفلتنا القادمة. كانت واقفة بجانبى ويبدو أنه اعجبها هى الأخرى.. عفواً سيدتى، هذا الفستان لطفلتى .. تلفتت حولها بتوتر ثم استقرت عينيها على رجل يدفع عربة أطفال تنام فيها طفلة جميلة.. نادت "فوفو.. تعال وانظر هذا الفستان لمَلَك" .. ألتفت لــ"فوفو" هذا لأجده هو ! .. لكنه لم يكن هو تماماً !


كان رأسه بتقسيم جديد لأماكن الشعر والصلع وبتسريحة غير التى كنت أصنعها له. خصره تم احتلاله بمستعمرات دهون رهيبة فى توزيع عشوائى. رسم على وجه -الذى صار منتفخاً بشكل طمس ملامحه الوسيمة- شارب و "سكسوكة" جعلته أشبه برجال كثيرين .. رجال لهم نفس القالب وهو الذى كان لايشبه أحداً. كان ممسكاً بـ"ساندوتش" من محل من محلات الوجبات السريعة أعرف أنه كان يكرهه تماماً ! .. كانت تناديه بـ"فوفو" وهو الذى كان يرفض تماما مايسمى "باسماء الدلع" حتى أنه كان ينادينى باسمى الذى لم استخدمه إلا فى أوراقى الرسمية .. كان يقول أن اسم الإنسان هو ذاته لايجب اختزاله أو تحويره، وإذا تنازل الإنسان فيما يناديه به الآخرون فسوف يستمر التحوير وإعادة التسمية على الصفات وكل ما يتعلق بالشخصيّة، وأنه يكفى التنازل الأول حين تُركت مهمة تسمية الإنسان لذويه وليس للشخص الذى سيحمل الاسم على روحه ويسير به طوال حياته وللأبدية. كان يقول أيضاً أن للاسماء قدسية لايجب أن نعبث بها، ففى بعض القبائل الأفريقية يدركون هذة القدسية ويخفون اسم الطفل مدة طويلة من بعد ولادته قد تمتد لأعوام حتى لايتم استخدام اسمه فى تعويذة تضره، وأنا كنت قد أمنت بهذه القدسية واستخدمت اسمه طوال غيابه فى تعويذات شتى.


ألتقت عينانا .. ألتقت عينىّ بعينىّ "طليقى" .. طليقى وليس زوجى، أما زوجى فلاأعلم أين هو ولا كيف هو .. لا أعلم منذ كان زوجى وكنت أراه ليس هو، وتم طلاقى مِن مَنْ كان يدعى أنه هو وكنت ابحث أنا عن الأخر.


تسمر ! .. نقل نظره بينى وبين الـ"ساندوتش" الذى يمسكه وألتمعت فى عينيه نظرة خجل، كطفل رأته أمه وهو يصنع خطئاً طالما أطمأنت أنه بعيد كل البُعد عنه. رفع يده الأخرى عن عربة الأطفال ووضعها على خصره وتضاعف فى عينيه الخجل "أجل توقفت أيضاً عن الرياضة اليومية التى كنا نمارسها سوياً" رأيتها بوضوح فى عينيه المكسورة .. كان المشهد عبثياً جدا أمام مناديته فكان الحل الوحيد أن انصرف فوراً.


استدرت كأنى لم ألحظه أصلاً وتصنّعت متابعة الفتارين والبضائع فى اتجاه تباعدى عنهم .. كنت اسمع وأنا أغرق بعيداً –أو بالأحرى اتركه غريقاً وأصعد على السطح- صوتها وهو يوجّه إليه حديثاً حاداً "فوفو .. مين دى ؟؟ .. مالك لما شفتها وقـــ...". أكرر دعائاً فى سرى وأنا أبتعد "يارب .. لاتجعل حياة "فوفو" هذا تضطرب بسببى وأنا لاأعرفه ولاأحبه ولا أريده، ولم أكن أريد فى حياتى إلا رفيق".


أعود إلى بيتى –بيتى وحدى- وأنا مرهقة جداً جداً. اليوم بذلت مجهوداً خرافياً، ربما لو قاسه أحد لسجله فى موسوعة "جينس" كأطول مسافة سباحة. اليوم سافرت من قارة لقارة لأعود إلى نفسى، لأفيق من وهمى الذى طالما نبهتنى إليه صديقاتى وكنت لا أصدقهن. "رفيق تلاشى" تلك الحقيقة الحقيقة التى يجب أن اعترف بها، وسوف لايعود أبداً. أُعدّل اللفظ الذى كنَّ تستخدمنه بأنه "مات"، فلو كان مات لكنت ناجيبته من أبديته وتواصلنا بشكل عندى خبرة كافية عنه، لكنه أنعدم! .. لم يعد له وجود.


اليوم إذا عاد "فوفو" هذا إلىّ سيجد ملابس "رفيق" التى عندى لاتناسبه، ذوقها الراقى ومقاساتها لرجل أخر كنت أعرفه وكان رائعاً بحق. سوف لايشتهى طعامى الساخن الصحى اللذيذ، فـ"فوفو" هذا يأكل من محل وجبات سريعة طالما تغنى بمفاسده وسوء نكتَهُ. "فوفو" هذا لديه أبنه جميلة لكنها لاتشبهنى! .. تشبه أمها التى تناديه بـ"فوفو" وهو الذى سوف كان لايقبل أبداً.


اليوم أدركت المعنى الحقيقى للـ"طلاق"، أدركت كيف كانت ترى أمى أبى غريباً عنها رغم أنى كنت أراه أنه هو أبى الذى كان زوجها .. لقد كان وظل أبى، لكنه لم يكن هو زوجها الذى كان تعرفه قبل خط الطلاق، وربما قبل قبل خط الطلاق الرسمى بمسافة لااستطيع أن أقدّرها.


من اليوم سوف لاأردد نشيدى الفيروزى لأنى كفرت بـ"بيطلع ع بالى أرجع أنا وياك .. أنت حلالى أرجع أنا وياك ..بيرجع ع راسى رغم العيال والناس، أنت الأساسى وبحبك بالأساس" .. أجل مازلت أحب "رفيق" واعتبره أساساً لايمكن نقضه فى حياتى، لكنى أدركت أنه لاسبيل لأرجع إليه لأنه ليس بموجود.


أدركت أيضاً أن الـ"طلاق" ليس إجراءاً خاصاً بعلاقات الزواج فقط، لكنى قد طَلّقتْ وطُلِقتُ كثيراً جداً من علاقات كانت روابطها مضفورة فى روحى. صديقات ذهبن أو ذهبت أنا، أختى التى هاجرت وتناقص معدل مكالمتها حتى صار بمعدل مرتين فى السنة وقت الأعياد فقط، أمى التى طلقتنى قبل أن تموت لأنى "خيبت أملها" وجلبت لها العار فى العائلة بطلاقى، إذ اتهمها الجميع بسوء تربيتها لى، وإنها سبب "خراب بيتى"، عمتى التى طلقتنى لأن عليتهم تعتبر الطلاق ذنباً لايغتفر يستدعى الاستئصال. أخى الذى طلقتُه لأنى احسست بخجله منى أمام أسرة خطيبته لكونى مُطلّقة، الكثير والكثير من العلاقات التى انتهت على هذا النحو.


يبقى "الطلاق" إجراءاً صعب الفهم إلا على القانونيين الذين يحددون العلاقات بأوراق رسمية، وكذلك على مَنْ ذاقوا أن تمتزج أوراحهم بأرواح أخرى فى فضاء من "الحب" يصعب معه فصل الأرواح كما السوائل المتجانسة فى كأس، ثم يرون بأعينهم –وحياتهم وعقلوهم وقلوبهم- نظرية لم يذكرها العلم وإن شاهدوها وسجلوها وأمنوا بها .. التلاشى فحتمية الطلاق.