الثلاثاء، 20 يناير 2015

غسيل مخ






  
    مرة وأنا في السادسة تعرضت لِما يشبه التسمم. اشتريت حلوي تشبه "أم علي" من بائع متجول أمام المدرسة .. أعجبني شكلها، فطلبت من زميل يكبرني أن يتأتيني بطبق صغير .. أخبرني أني لكي أحصل عليها ينبغي أن أعطي البائع نقودًا. أخرجت كل مافي جيبي واعطيه له .. احضر لي طبقًا شهيًا. ماكنتُ أمّر بهذا لو كانت أمي قد أتت في معادها المعتاد لتأخذني من أمام المدرسة، ولكنها في هذا اليوم تأخرت .. لمّا حضرت كنت للتو انتهيت، نهرنتي وتوعدني بالحرمان من المصروف. دقائق وبدأت أتشنج وأتعرق .. هرعت بي إلي المستشفي، وهناك أجروا لي "غسيل للمعدة" .. بالاختصار يصلوا للمعدة عن طريق أنابيب من الأنف والفم، يضخوا سائل ويسترجعوه. ونجوت.

***
أيهما أهم؟؟ عقلنا وقلبنا، أم معدتنا؟؟ .. كيف إذن لانتحكم فيما يدخل الأولين، بينما ندقق في نظافة، وفائدة مايدخل معدتنا؟؟. إذا مارغبت في ألا يدخل قلبي شيئًا غير نظيف .. فكيف أمنعه؟؟

***
تبكي كل ليلة، تدفن وجهها في وسادتها حتي لايسمعها أحد، فيخرج صوتها مكتومًا كنعيق البوم، سمعت صوت نعيق البوم في فلم كارتون وبدا لي مخيفًا جدًا. أسألها عن سبب بكائها فتخبرني أني سوف لاأفهم. أحاول أن امسح علي شعرها ربما تهدأ .. فتبكي أكثر، أو تدفعني بغضب وهذا غالبًا مايحدث. تظن إني سوف لاأفهم لأني أصغر منها بكثير، ولأني أعاني قصورًا عقليًا .. ولاتعرف أن القصور لم يبلغ مشاعري، أعرف أنها كان تحب خطيبها الذي كان يأتي كثيرًا لزيارتنا، وأنه سوف لايأتي مرة أخري كما أخبرتني أمي. أعرف أن هذا مؤلم وهذا مايجعلها تبكي. أنا أيضًا كنت أحب "سوسن" جارتنا، وتألمت كثيرًا عندما انتقلنا لمنزلنا الجديد ولم يعد بقدوري رؤيتها. أخبرت الجميع إني أحب سوسن وأريد أن أراها، لم استطع أن أبكي مثل أختي .. لكني أتذكر أني حطمت الأثاث الجديد الذي كرهته. عوقبت بعنف، وعزل لفترات طويلة .. ولم أرْ سوسن مرة أخري.

***
اُخبرَها في يوم ونحن نذهب للمدرسة أني أعرف لماذا تبكي ليلًا. تنهرني ثم تبكي وتطلب مني أن أدعو لها كي تنساه. أسألها مامعني أن تنساه؟ .. تقول لي أن يرحل من قلبها وعقلها .. أستفهم عن المكان الذي تريده أن يرحل منه بالضبط فتشير لصدغها وصدرها.

***
ولهذا أنا هنا! بعيدا عن أمي وأختي. يقولون أني متهم بإيذاءها، بقتلها .. وأني خطر! .. أنا كنت لها كالطبيب الذي عالجني. ربما ألمها هذا لكنها ستكون أفضل بدونه .. سيعود قلبها وعقلها لنظافتهما الأولي، وسوف لاتحزن أو تبكي أبدًا.

***
"سوسن" تركت عقلي، لم أعد أريد رؤيتها .. "هبة" زميلتي في المدرسة الجديدة أجمل منها، وهي تلعب معي أيضًا وتحضني كثيرًا. أنا أحب "هبة". ولكن أين ذهبت "سوسن"؟؟ كيف خرجت مني؟؟ هل خرجت كما يخرج بقايا الطعام عندما أذهب للحمام؟؟ كيف يخرج الناس من رؤوسنا؟؟ يخرجون مع منابت شعرنا ثم يطيرون؟ ربما لهذا تنتاب رأسي من آن لأخر حكة ..

***
في تلك الليلة نظرت طويلا لهاتفها .. كانت تقرأ .. كلام كلام. ثم انفجرت في البكاء كالعادة. هذه المرة كان جسدها يرتعش ووجهها يتعرق. أعرف كيف تشعر .. هذا بشع! .. مررت به قبلًا. لابد أن يخرج هذا الرجل من عقلها .. لابد.
***
كيف تدخل الأشياء وتخرج من عقولنا؟ أبحث عن فتحة كالفم أو الأنف للرأس، فلاأجد غيرهما. لكني أبدًا لم اُدخل أو اُخرج شيئًا منهما إلي رأسي .. ولا رأيت أحد يفعل، لكنهما بالتأكيد يعملان. ربما تكون الدموع هي السائل الذي يشغل أدمغتنا، وتخرج حينما نحزن ونحاول طرد فكرة من رؤسنا بآلية تحاكي التقيؤ لكن في شكل سائل شفاف.
اُحضر "مغرفة" الفول .. اضع في كفها سائل التنظيف .. واُدخِل يدها في أنف أختي المسكينة التي نامت للتو. تسقيظ مذعورة .. فأتفهم ذعرها .. كنت مثلها مذعورًا، أعزم علي أن أكمل مانويته لأخلصها من سُمّها، وستمتن لي لاحقًا كما أمتن الآن للطبيب الذي خلصني من السم والألم.
ولهذا أنا هنا .. ففيما أذنبت؟؟