الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

"باليرينا"




     مَنْ لم تزر أحلام يقظته أبدًا نفسه كــ"باليرينا"؟ الدوران والطيران .. العين المغمضة باسترخاء. مَن لم يرفع يده ليطرد أثر نوم أو تعب، وتجمد في ضع شد جسمه ليكمل بخياله المشهد علي خلفية مسرح أوبرالي أو شاطئ أو حديقة غنّاء .. حيث لاشيء إلا الجمال والموسيقي العذبة .. وبراح الروح.

     أجيب عن معشر الفتيات وأقول بثقة -مصدرها أنا فقط- كلنا نكون "باليرينا" أحيانًا. بل أن بعضنا ينقل أشياءًا من الخيال للواقع لدعم الصورة بشكل مادي! .. فهذا فستان واسع ندور به في أرجاء منزل خال علي إيقاع موسيقي مُتخيَلة أو حقيقية. وهذا حذاء خفيف أو أقدام حافية تحاول أن تحاكي أقدام "الباليرينا" فلاتستطيع إلا أن تسطح أصابعها وتقف عليها كأقصي مقدرة لتقليص مساحة الألتقاء بالأرض.

     نفرد شعورنا .. ندور ونتعثر في أحذيتنا وأشياءنا الملقاه هنا وهناك ..نسقط فنضحك ونُحرَج لأننا أفسدنا الصورة التي في خيالنا عنا.


***


     من لم يكنْ باليرينا أبدًا؟ هل معشر الرجال يزورون وتزورهم أحلام يقظة من هذا النوع؟ أم يحلمون مثلًا أنهم يقودون سيارة مكشوفة علي طريق زراعي كنوع من التعبير عن الانطلاق بدلا من النموذج الأنثوي كــ"باليرينا"؟ .. لماذا يعتبر هذا نموذج أثنوي من الأساس .. "الباليرينا" رجل وأمرأة.

***

       ربما تخجل فتاة من "باليريناتها" إذا زاد وزنها، فكيف ستطير وتدور وهي علي هذا الرسم؟ ربما قللت محيط خصرها في أحلام يقظتها .. أما في الواقع فسوف لاتحاول أن تكون "باليرينا" .. نظرة واحدة للمرآة كفيلة بتثبيطها.


***

     عانت جدتي في أخر سنواتها من جلطة في المخ سببت لها شللًا نصفيًا. خسرت الكثير من وزنها. كانت تُنقل من السرير إلي الكرسي، ومن حجرتها إلي الحمام بأن تحمل كطفلة نائمة .. مع أنها كانت واعية.
     فيما كانت تفكر أثناء حملها من أبناءها وأحفادها؟ لو كنت مكانها لكان الوضع مهينًا قليلًا .. ولكن هل فكرت هي مرة وهي تلف زراعها علي رقبة أحدهم، أو تري أقدامها مرفوعة في الهواء أمامها أنها "باليرينا" في عرض ما؟


***


     أحاول حصر الحالات التي يري "الإنسان" نفسه فيها في حالة الـ"باليرينا" في أحلام يقظته، أو في الواقع بأداء تمثيلي طفولي دون أن يصيبه الاحراج .. فلا أجد إلا حالة "باليرينا" الكلاسيكية المثالية .. أنثي –فقط- في أواخر المراهقة أو شرخ الشباب، وفي قوام رشيق جدًا جدًا .. نحيف أكثر منه معتدل. أما الأثني الصغيرة فتري نفسها أكبر، والكبيرة تري نفسها أصغر .. الممتلئة تري خصرها أنحف وساقيها كالفروع الخشبية. أما الذكر .. فلا أعرف! .. هل يري نفسه أنثي ويرفض التصريح، أو لايري نفسه أصلًا في هذا الدور؟


***


     هل لتكون حرًا جميلًا قابل للاحتضان والحمل إلي أعلي .. صالح للطلب للرقص إذا ظهر شريك في الحلم يتطلب أن تكون "باليرينا مثالية"؟. "الباليرينا المثالية" باختصار أنثي عندها أفضل احتمالات التخصيب والانجاب .. فقط! .. هل أصبح في خيال العالم الجمال بكل توابعه المعنوية –وأعظمهم الحب- لايليق إلا بمن يليق بـ"الاشتهاء" لتحقيق منفعة الحفاظ علي النوع؟ .. وكأن بدائيتنا تنتصر دايمًا علي أي روحانية في إنسانيتنا. لماذا يبدو مظهر العجوز التي ترتدي ملابس جميلة ملونة وتضع المساحيق "متصابي" و "مايصحش كدة ياتيتة" و "هاتوبي أمتي ياولية" كما في تعليقات شبكات التواصل الاجتماعي علي صور السيدات والممثلات كبيرات السن المعتنيات بأنفسهن؟

     لماذا لايرقّ أحد –أو نادرون يفعلون حتي لاأسقط في التعميم- للمعة الحنان في عيون العجوز المستند علي عصا ويراها جذابة –إنسانيًا- وعاطفية، بينما يمكن أن يلصق نفس الصفات بعيون شاب وسيم لاتحمل عيناه حقًا هذا الاحساس؟ لماذا يليق بالأخير دور "الباليرينا" كأمير، بينما الأخر يصعب تخيله في الدور؟


***


     ترتدي الفتيات الصغيرات فساتينهن الجميلة المنفوشة .. فيدرن ويضحكن وتلمع عيونهن .. كذلك الأولاد الصغار حينما يلبسوا الجلاليب .. "الباليرينة" في دماء الإنسانية قبل أن يعرف أحدهم أن هناك فنًا يدعي "الباليه" يضع قواعد وقوانين لهذا النوع من الحركات المنطلقة والاحساس المصاغ حركيًا ..

     كلنا نحمل روح "باليرينا" تريد تلقائيًا أن تتحرك علي إيقاع الموسيقي .. تريد أن تعبّر عن فرحها بدوران وسقفة وقفزة.. تميل بدلال علي من تحب .. تشبك الأيادي برفق، وتسحب وتضم من تتوسم فيه الوفاق في الرقصة .. حتي ولو في خيالنا.


     لكن روح "باليريناتنا" تُدجّن .. تُقزّم .. تغتال بطعنات بطيئة من السخرية والاستنكار علي مر الأيام .. حتي إذا انتصب مسرح الخيال .. وطاقت الروح للانطلاق والجمال والفرح .. لاتجد أحدًا ليملأ المشهد .. فالكل في الداخل والخارج ثقيل ومحبط ... ومحرج.