الأحد، 23 أبريل 2017

فضفضة أخوية


     لو كان أخبرني أحدهم يومًا أني سأصبح متدينًا لشتمته بأمه، كما أفعل دائمًا للتوبيخ أو الملاطفة. والآن لم أصبح متدينًا بالمعني الشائع للكلمة - مازلت لاأؤمن بأي دين بالمناسبة – لكن مايدفعني للفضفضة إليك رغم أنك غريب ومجرد "زبون" سأوصله وجهته وينتهي كل مابيننا هو تلك الأجراءات المشددة التي فرضوها علي الكنائس مؤخرًا .. تذكرت لعبورنا أمام واحدة.

     أبي وأمي كانا متدينان .. جدًا. لكن رغم أنتماءهما لنفس الدين، ورغم أولوية الدين وممارساته في حياتهما كانا عدوان! .. أبي كان يضرب أمي، وأمي كانت تكره أبي، لسطوته عليها وخضوعها له باسم الطاعة. كانت لي شلة اصدقاء لهم معايير للرجولة لاتتفق مع معايير أبي. كلنا كنا علي غير وفاق في بيتنا .. حتي أختي. النموذج الكلاسيكي للأسرة غير المتحابة في الأفلام والمسلسلات العربية الذي ينتج شابًا منحرفًا. لكني لم أنحرف، فقط لم أرد ان أكمل تعليمي .. اقترضت واشتريت سيارة لأعمل عليها واستقللت عن منزل أبي. القيادة مهنة لابأس بها، لكن الوسط يفرض عليك سلوكيات معينة وإلا ستأكلك الحيتان إذا استضعفتك. سبب أخر جعلني أستقل، وهو أني كنت أريد الزواج جدًا، وبدون تدخل أبواي. كانت لدي احياجات جسدية وعاطفية .. جزء في داخلي كان يئن بشدة. وددت لو تزوجت فتاة أعتذر فيها لأمي عن عنف أبي، وتعتذر نيابة عن أمي لجزء مني -في أولاي- عن قساوة كبيرة أوجعت كل كياني. كنت أُذكّر نفسي كل يوم أن أخبر زوجتي أن تحتضن أولادنا بشدة حتي لو كانوا ذكورًا، بينما سأخجل أن أطلب منها المثل، سأنتظر بشوق أن تفعله من تلقاء نفسها فانتهرها، ثم أتمني أن تكرر فعلتها مجددًا.
     لمّا تزوجت من أخت صديق فوجئت بنفسي وأنا أكرر مافعله أبي مع أمي، ومعي وأنا وأختي! كنت مذهولًا من تصرفاتي كأني دمية تحركها أصابع خفية وتسخر منها! .. زوجتي لم تكن كأمي، اشتكت لأخيها فجمع اصحابه وضربوني، أخذوا منقولاتها .. ووقّعت تحت التهديد علي إيصالات أمانة تم المساومة بهم علي الطلاق.
     عندما أصبح أبني بعيد عني، وصرت أراه مرة كل أسبوع -بعد مفاوضات كثيرة- لمدة ساعة أو نصف يوم علي الأكثر- صرت أكثر وعيًا بتصرفاتي معه. ورغم طول المسافات بين لقاءاتنا، ورغم محاولات أمه وعائلتها لزرع الكراهية في قلبه الصغير تجاهي، إلا أنه أحبني بشدة وأنا عشقته.
     كان ينظرني كل يوم جمعة في الشرفة .. ينظر من بين فتحات السور .. حتي من قبل أن يتعلم المشي .. كان يعرف بروحه النقية إني في الطريق إليه كالكلاب التي تشعر باصحابها بحاسة خاصة، وكنت أحضر له الحلوي والألعاب. لم استطع أن أكون أبّ، لم أعرف كيف افعلها لمدة نصف يوم في الأسبوع! لكني كنت رجلًا يحب كيان صغير ضغيف -يشبهه تمامًا- يشفق عليه بشدة، ويحاول علي قدر معرفته أن يسعده.
     حركة كانت تذيب قلبي طوال الوقت  .. أن أصل أمام أبني فيرفع يديه لأحمله، هل جربت أن يحبك طفل -من أي سن- ويرفع يديه إليك لتحمله؟ لو جربت ستفهم تمامًا مااعنيه. النظرة المتوسلة المبتسمة الحنون المتدللة الواثقة، الخصر المائل ناحيتك بقوة جذب لاتستطيع معها إلا أن ترفعه وتضمه بشدة كأنك تود أن تُسكنه داخلك، رفعة اليد والفراغ الصغير الذي يفسحونه لكفيك تحت أذرعهم الضئيلة .. صدورهم الدافئة التي يرتاح عليها كفك الكبير فتستقر أصابعك علي الفراغات بين الضلوع كأن الضلوع خلقت بفراغات لتتشابك بانسجام مع اصابع الكبار وتنقل لها دقّ الحب الخالص المتحمس. جرب أن تحاول حمل طفل لايحبك ولايرتاح إليك، ستجده يضم ذراعيه إلي صدره ويدفعك .. الأطفال لايقدمون حب مبتذل، بينما الكبار كلهم "بائعي هوي". لايمكنك أمام رفعة ذراعين لطفل إلا أن تحمله وتشعر بنبع حب دافيء ينفجر في صدرك .. مهما كنت قاسيًا.
     لعلك تسأل ماعلاقة كل هذا بالكنيسة؟ .. في يوم توفي والد زميل لنا علي القهوة، كنت في سفَر مع زبون للأسكندرية فلم احضر جنازته، لذا قررت أن لاأفوّت الأربعين حتي لا "يأكل وشي" إذا تقابلنا علي القهوة في القريب. دخلت في نهاية معاد الصلاة الذي اخبرني به الاصدقاء .. انتظرت أخر صف .. وجدتهم يكررون الصلاة التي تظهر دائمًا في الأفلام العربية والأجنبية يكررها المسيحيون جماعة .. "أبانا الذي في السموات .." لم تكن أول مرة اسمعها. مازلزل كياني هو رفعة أيديهم في الصلاة مع كلمة "أبانا" رجال ونساء، بالغون ومسنون وأطفال .. بنفس الطريقة التي يرفع بيها أبني ذراعيه كلما رآني!! .. لايبدو هذا طقسًا عالميًا للصلاة .. حسبتهم يفردون كفوفهم يضعونها بوضع راسي متلاصقة تحت ذقونهم ويغمضون عيونهم.

     كان عدد الحضور يوم الجمعة هذا في الكنيسة كبير جدًا .. رفعة أيديهم ونظرتهم للسماء باعين مفتوحة بنظرة تشبه نظرة أبني جعلتني أتخيل يدان عملاقتان ستشق القبة الكبيرة وترفعهم .. لاأحد -حتي لو كان إله قاسي لايكترث لخليقته- يمكن أن يتجاهل تلك النظرات .. تلك الأذرع المرفوعة .. والصدور المبسوطة التي تأتمن من ترفع له يدها علي قلوبها. قوة الحشد وقوة المشاعر صعقتني .. تسمرت مكاني ثم انخرطت في البكاء. لم استطع أن اعزي صديقي ومشيت. كان ذلك اليوم أروع يوم قضيته مع أبني في حياتي .. ولم استطع أن أجيب علي سؤاله "بابا أنت عيط ليه؟".

     في مساء ذلك اليوم ذهبت لبيت صديقي بحجة أداء واجب العزاء المنسي .. طلبت الاختلاء به، سالته عن سر تلك الصلاة، وعن رفعة الأيدي تلك، والعيون الشاخصة ماذا تري ولمن تنظر؟ أسئلة كثيرة تلاحقت في ذهني، لكنه لم يجب علي أي منها. أندهش في أول الأمر وحاول أن يتأكد إني لااسخر منه ولاأسيء لمقدساته، ثم سخر هو مني ومن المصليين، قال أنه "شغل دروشة" وأن أبيه وأمه كانا يفعلان هكذا بحكم العادة- لأنها لم يقنعاه بسبب - أما هو فيحب أن يصلي مطرق الراس مغمض العينين لأنه "خاطي" وهذا الوضع مدحه السيد المسيح ويغفر خطايا من يصلون به.

     بحثت في الأنترنت عن هذه الصلاة وحفطتها. لست مؤمنا بكلامها، لكن لكي أرددها مع الجمع .. كل جمعة أدخل أي كنيسة في موعد انتهاء القداس، لاأكترث بالصلوات أو أي شيء .. أنتظر أن يعطي الكاهن الواقف بظهره أمام الناس الأمر ببدء الصلاة التي تبدا بــ"أبانا الذي في السموات" فأرفع يديّ بأقصي امتداد .. أبدو غريبًا باصابعي المتباعدة والكل يضم أصابعه، لكن أبني يفعلها هكذا، وانا أراها تلقائية أكثر، أردد الصلاة ودموعي تنهمر ثم اغادر لأذهب لأبني. هل ستصدقني أني كثيرًا ماشعرت بزراعيتن عملاقتين تحملاني وتضماني؟ حتي لأني أحيانًا أبكي بنحيب من ولع الحب الذي يغمرني، فاُحرج ولاأعود لتلك الكنيسة مرة أخري، بل أبحث عن غيرها. ماأخشاه إني لثلاثة أسابيع لم أستطع أن أدخل أي كنيسة لأنهم صاروا يطالبون إظهار البطاقة، وقد يرتابوا في أمري إذا وجدوا إني لست مسيحيًا ومسجل في قضايا طلاق ونفقة. لاأريد أن أُحرم من تلك الحالة .. فهل عندك حل؟