الاثنين، 15 يونيو 2020

أميرة الكمامة




هل يصدق أحد أن أيام جائحة فيرس الكورونا هي أسعد أيام حياتي؟ وإني أتمني أن لاتنتهي أبدًا.. خاصة بعد أشتداد الأزمة ووجوب أرتداء الكمامة الطبية بالقانون.

منذ طفولتي لم أشعر أبدًا إني فتاة طبيعية جميلة.. فمن أول أيامي في المدرسة بدأت
ألاحظ أن فيّ شيئًا مثير للسخرية لم أكن ألحظه أبدًا، ولا أي من افراد أسرتي سبق أن علق بشأنه.."أ
.

كانت أسناني مشوهة بشكل غريب.. ولمّا أصبحت أعود يوميًا من المدرسة أبكي لأمي لأن زملائي وحتي مدرسيني يسخرون من شكل أسناني، ذهبت بي لطبيب.. وعدنا بأذيال الخيبة. العملية مكلفة جدًا جدًا، وسني صغير. عزاها الطبيب -عندما أدرك احباطها بسبب ضيق ذات اليد- أني عندما أكبر وأقوم بتبديل أسناني، سيكون الموضوع أفضل 
وأوفر لتصليح شكل فكّي

سمعت كثيرًا من خُطب "أقبلي نفسك" .. "حبي نفسك زي ما أنتي" ، "عيوبك سر جمالك" وكل هذا الهراء والخطابات البراقة،
كلها كالبيضة الفاسدة.. شديدة اللمعان والصلابة من الخارج، نتنة وبلا فائدة تسمن أو تغني من الداخل. كرهتها من كثرة ما قيلت لي، وأصبح الجميع يرسلها لي عندما تصادفهم في تسجيلات أثناء تصفحهم الانترنت!

هذه الصديقة التي ترسل لي الفديو الخاص بعارضة ازياء مصابة بمرض البهاق الذي رسم بقع بيضاء علي جسدها الأسمر.. هي هي نفس الصديقة التي أنهارت قبل
خطبتها بيومين عندما ظهر حب شباب علي وجهها، جزعت وخجلت أن تكون عروس ببضع حبات كرأس الدبوس.. ستغطيهم أطنان مساحيق التجميل علي أي حال.
كل صور خطبتها لاتظهر فيها أي حبوب، فقط بشرة معدنية لامعة.. بينما عيناها
متفختان من جراء البكاء ليومين متصلين.. ولم تفلح أدوات التجميل في
تهدئة الانتفاخ.

أما أنا.. فلا انتظر تعاطفًا من أحد، لكنّ التشجيع يجرحني ويستفزني أكثر!..
كبرت أخجل أن اضحك.. أبتسم فأضع يدي علي فمي بحركة لاأرادية،
حتي أن كل صوري -ولا حيلة بان أضع يدي علي فمي في الصور الرسمية- بابتسامة صفراء مزمومة الشفتين.

لم يحبني أحد.. ربما لأني لا أحب نفسي. أخجل أن اتحدث أمام غرباء أو في مجموعة. أعرف أن شعري البني الناعم جميل.. وأن عيناي "محلية" كما كانت تقولي لي
 جدتي.
 لكن قطرة من الحبر تفسد كوب من الحليب، وأسناني جعلتني أشعر طول الوقت
أني قبيحة. خاصة وأن أول مايلفت انتباه الغرباء -من الباعة مثلًا- أول ما أبدأ
بالكلام.. هو أسناني، تملحق عيونهم فيها طول مدة كلامي، المحترمون يحاولون
تصنع عدم الأكتراث، والأغلبية يبتسمون ابتسامات ساخرة صدئة.

أما وقد اصبحت الكمامة الزي الرسمي الموحد حول العالم.. فما أسعدني!!.. لأول مرة اشعر أني ولدت من جديد.. وأخذت فرصة جديدة وسط البنات.. فرصة لم تخطر في
أسعد أحلامي، فغاية رجائي كانت أن أقوم بعمليات كثيرة.. ستكلفني ثروة طائلة ليست عندي، وآلامًا مبرحة. بينما الحل جاء بين يوم وليلة!.. كمامة بحجم كف اليد وبقيمة زهيدة.

أصبحت أضحك.. اضحك بشدة من قلبي، فتُصدّق الخطوط الدقيقة حول عيني علي
تلقائية ابتسامتي. شعري البني الطويل يطير بحرية، وعيني من فوق خط الكمامة
الآمن ترسل حبًا للجميع.. يمكنني الآن أن أتخيل نفسي أميرة، عارضة أزياء، راقصة باليه،.. أي نموذج تضع فيه الفتيات أنفسهن في أحلام اليقظة، عندما يردن أن يشعرن بجمالهن وأنوثتهن. وأنا دومًا كنت الفتاة الخجلة حتي من أن تحلم.. لا أميرة أو جميلة بلا ابتسامة.. ولا ابتسامة بلا أسنان غير التي للساحرات العجوزات.

أصبح البشر في كل مكان في العالم تتنوع أزيائهم تبعًا لثقافتهم.. يختلف حتي مفهوم العورة التي يجب تغطيها من أجسادهم.. أما قناع الوجه، فالكل منتفق عليه لأن الفيرس قد غزا الكوكب كله.. سأكون فراشة محلقة حول العالم.. الكل سيقبلني، وسأرحب بالكل بابتسامة عيني. قد اصبحت أخيرًأ "طبيعية" ومقبولة.
فهل أكذب وأقول أني أتمني أن تنتهي العزلة الاجتماعية، فيخلع الجيمع الأقنعة، وأعود أنا لعزلتي؟ أن ينتهي كابوس الفيرس العالمي، لأعود لكابوسي الخاص؟


الأحد، 31 مايو 2020

العالم ينتهي بخلفية صوت فيروز




     أصعب الأيام في طفولتنا هي التي كنا نكتشف فيها صباحًا أن بطننا تؤلمنا
فعلًا!.. وأن الدور الذي كنا نحاول تمثيله أحيانًا لنهرب من امتحان، أو مواجهة
صديق قوي مُتوَعِد نخافه، هو في الواقع صعب وبه الكثير من التقلصات التي لم نتقن افتعالها.

     كنا نسمع برامج الأطفال والكارتون لأول مرة.. وبرنامج أبلة فضيلة كاملًا.. لمن يذيعون هذه البرامج في هذا التوقيت؟ وكل الأطفال مصلوبة في المدارس -مَن لايذهبون إلي المدارس، في الغالب ليس لديهم تلفاز أيضًا- بينما من يشاهدونها في منازلهم لديهم خطب جلل سيكتب غدًا في جواب وليّ الأمر لتبرير الغياب.

     تلك الحالة المركبة من ألام تُعذّب أمعاء صغيرة، ومرارة الدواء في الحلق، مع قصة شيقة بصوت جدة حنوّن، وكارتون جاذب لعيون زائعة من الدموع والحرارة المرتفعة، الحالة التي يظن معها الطفل أنه بلغ ذروة الألم والمعاناة، مع أبهار المفاجأة والاستمتاع بفن موجه لوجدانه.. هي حالة نهاية العالم التي أعيشها الآن.

     منذ أن ذاعت أخبار الجائحة والفيرس، والجماعات حولي تقفز بين التجاهل والذعر والفزع والسخرية السوداء واللامبالاة، فسلام التسليم. أنا أيضًا كنت ومازلت أتحرك بين هذه المربعات الشعورية، كمَنْ في لعبة الحجلة.. الآن أنا هنا.. بعد دقائق أنا في قفزة واحدة هناك.

     اليوم الجو ربيعي جميل!.. صوت فيروز احتل المساحة الأكبر من برنامج الراديو
"ضاق خلقي ياصبي .. من ها الجو العصبي
 تغنيها في أذن واحدة.. وأذني الأخرة تلتقط أصوات الشارع المتوترة.. الأغلب يسير بكمامات.. عيون حذرة متلفتة.. محلات تضع التحذيرات، وتغلق الباب علي عدد من الزبائن لمنع التكدس. أطفال مقنعون، واصحاب ملوحون من بعيد حيث لااقتراب ولا تلامس


هل هذا عالمي؟ هل هذه مدينتي، وهذا زمني؟ هل ينتهي العالم الآن؟... 

ألتفحص العيون المارقة من حولي.. تقول فيروز
يخرب بيت عيونك ياعالية شو حلوين..
لماذا عندما كنا نصاب بنوبات المغص قديًما لم يحدثنا أحد عن الموت؟ لماذا لم تحكي لنا أبلة فضيلة عنه؟ ولماذا لايشرح الكارتون لماذا يجب أن نموت لنعرف مبكرًا كيف نعيش.


كانوا ينكروا الموت ويرسلونه (بعد الشر) مع أن الشر حاضر دايمًا والموت كذلك.. متلازما
ن بلا ترتيب. اليوم الموت حاضر بقوة.. يأتي ذكره يوميًا كثيرًا..
ومازال أنكاره قائما. تغني فيروز
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
أجل يافيروز نحن للموت والموت لنا، قبل الشر وبعده وأثناءه.. نتألم.. نخسر.. نفتقد.. نخاف.. نشعر بالسكينة.. ننظر للسماء علنا نري الله أو أحد ملائكته فنقول له
يالله نحن غلابة وأنت الرحيم
الملائكة تسمع لصوت فيروز أيضًا مع البشر.. لاتنظر للموت كمان ننظر إليه، ولا تنكره كمان ننكره. تحملنا ونصعد بهدوء للسماء.. هدوء يليق بنغمات فيروز، لاسرعة ما انتجه البشر من إيقاعات موترة.. غنوها وعاشوها وجعلوا رتم حياتهم.


أسير وسط متحضرون، وأنا منهم. من لن يمت بالفيرس مات بغيره. لاأنكر الخوف والقلق، ولا أنكر السكينة والاستمتاع بالجو وصوت فيروز. أسير وأنظر إلي السماء.. حسنًا نهاية العالم ليست بالصخب الهوليدي.. 
لم يستخدم أحد أبدًا صوت فيروز كخلفية.. لكن لابأس بها يالله
ياشمس المساكين.. أنا زهرة من زهورك.. باركني.. ساعدني .. بالدمع بتزرعني بالفرح بتحصدني.