الاثنين، 16 يناير 2012



"خالد مات" ! .. هذا هو كل الموضوع بكل بساطة. أرجوك لا تواسينى وانزع هذا الأسى عن ملامحك .. أنا لا أقولها لاستجلب أى نوع من الشفقة أو التعاطف ، أنا فقط أبلغك الحدث بصيغة تقريرية خالصة.

"خالد مات" كم تبدو العبارة مضحكة من فرط التناقض ! كيف لــ"خالد" أن يموت ، أليس معنى خَلَدَ فى المعجم دام وبقى ؟ .. أستغفر الله .. البقاء لله ... الخلود للإنسان فى دار الخُلد .. أى الآخرة ، وليس فى هذة الحياة. أتفهّم تماماً أن "خالد" باقٍ فى مكان ما .. ويبقى أن يتقبل احساسى فكرة انتقاله لمكان لن استطيع أن أراه واستمع لصوته أو أشاركه أى ممارسات حياتى فيه.

"خالد مات" .. أرجوك لاتستخدم كلمة أخرى لتصف الفعل الذى حدث لاتقل "توفى" ، أو "رحل" –كأغلب مايقولون فى الأفلام الأجنبية- أو "فارقنا" ... أو "انتقل للرفيق الأعلى" .. أو ... أو ... قُل "مات" لأنه ببساطة فعل هذا بكل وضوح وبلا أى تنميق لغوى. هل فعل أم فُعِلَ به ؟ مات أم "توفاه الله" ؟

فعل الولادة مبنى للمجهول فى كل اللغات لأن القدوم للحياة فعل لاإرادى .. أنت ببساطة تجد نفسك قد أتيت وتقضى العمر كله تستوعب الموقف .. قد تدركه أو لاتدركه قبل أن تموت.

الموت سلعة لبعض رجال الدين وذوى المبادئ الذين يُعلْون قيمة "قيمة ما" إلى حد دفع الحياة بجملتها ثمناً لها ... ولكن تبقى الحياة عند بعض الأحياء لاتُقايض بأى قيمة مادية أو معنوية فيدفعونها مقابل لاشىء ! كل الأحياء سيموتون ، ولكن نادرون مَنْ يموتون مقابل شىء يُوضع فى خانة سبب الوفاة بخلاف الأمراض والحوادث.

"خالد مات" لأنه توقف عن الحياة ! هكذا ! .. شعر بألم فى صدره .. اُتُهِمَ بالــ"دلع" .. تجاهل هو الأمر .. دقائق ووجدوه "ليس حياً" ... واستغرقوا وقتاً طويلاً ليستوعبوا أنه "مات".

أرجوكم كفوا عن التهامس والرثاء ... أنا لست مصدوماً ولست مجذوباً ... فقط لاأريد أن ابكى لأنى لااملك سبباً مقنعاً للبكاء. هل الموت يستحق البكاء ؟ لِما ؟ الفراق ؟ إذاً فيالأنانيتى ... أبكى لأنى سأعانى مشاعر الافتقاد لاحقاً ؟ أبكى لوضع سأعانيه أنا فى المستقبل القريب أو البعيد ؟ .. كيف أنشغل بنفسى وسط حدث يخص صديق عمرى ؟ هل لو كنت حضرت "فَرّحُه" كنت سأفرح لأن صديقى سيصبح واحداً مع حُب عمره الذى يجد هناءه فيها ؟ أم كنت سأفرح لأنى "أنا" لى صديق يتزوج ؟ فلماذا أتحول الآن لكائن يخالف مشاعر صديقه فى مناسبة تخُصّه ؟

أبكى لأنى أعانى مشاعر افتقاده ؟ .. ولكنى لا أعانيها ! . قد مات اليوم ! .. وكنت معه اليوم صباحاً ...أحياناً كنت اقضى اسابيعاً دون أن اراه .. والآن مرت بضع ساعات فقط ، فلماذا أتصنّع الفاجعة وهذا شىء عادى جداً أن يحدث ؟. سوف لاأراه بعد ذلك أبداً ؟ "أبداً" كلمة غير دقيقة بل الأصح إنى سأراه "أبداً" –إذا كان لنا نفس المصير الأبدى- ومؤقتاً سوف لااستطيع أن ألتقى معه مادياً.

تطلبون منى أن أحكى عن حياته لأرثيه ؟ هل المفروض بصفتى صديق عمه أن أبدأ بسرد حسناته ومحاسنه .. وأبرز مواقفه وإنجازاته ؟ .. حسناً لايبدو هذا ذى أهمية. ربما فى حياته كنت أفعل هذا أحياناً ، ولكن الآن يبدو هذا بلامعنى .. مامعنى أن أقول أنه كان يحب كذا ويكره كذا ... ضحك فى موقف كذا حتى دمعت عيناه ، وبكى فى موقف كذا بمنتهى الحُرقة والألم. كان يفعل الخير بسخاء فأعطى كذا وساند كذا وضحى بكذا وكذا ... يبدو هذا سطحياً جداً .. ساذجاً جداً .. باهتاً جداً. كل هذا بلا قيمة أمام الحدث الأكبر .. لقد ظل ّ "خالد" يتغير يومياً ألاف المرات حتى فى لحظة ما رحل على صورة ما ... هى "خالد" ، ماعدا هذا رتوش ... فقد كان "إنسان" ، ولايبدو هذا إعجازاً .. حتى لو كان "قديساً" لايعتبر هذا اكتشافاً ... لاأحب تصنيف البشر وإدراجهم فى مجموعات كتقسيمة المخلوقات التى كنا ندرسها فى الأحياء .. لقد كان "خالد" إنسان ببصمة إصبع فريدة وشخصية مثلها لايمكن مفارنتها بأى حالة إنسانية أخرى. لو قلت أن أعظم انجازاته أنه أحرز هدف "بكرة الشراب" فى إحدى "متشات" الحارة ونحن فى المرحلة الإبتدائية لبدا هذا هزلياً ... ولكنى على نفس القياس أرى ذِكرى لفوزه بلقب الطالب المثالى لهذا العالم فى الجامعة هزلياً مقارنة بما هو فيه الآن.

بقى شىء يستفزنى بشدة ، وأطلب التفسير .. مامعنى أن أجد كل اصدقاءنا وزملاءنا يرثونه فى شبكات التواصل الاجتماعى ورسائل المحمول بوضع الثلاثة حروف أمام اسمه

RIP !!

كيف تقرأونها لأول وهلة هل تقرأونها "آر" .. "آى" .. "بى" ؟؟ أم "ريست إن بيس" ؟؟ .. لم يحظى "خالد" فى حياته بحرف قبل اسمه كــ"د" .. أو "م" .. أو "أ" .. كان "خالد" هو "خالد" ، حتى لم يكن له اسم تدليل .. هل عَزّت رسائلكم ولوحات مفاتيحكم –ياأبناء عصر السرعة- عن كتابة جملة تامة ! .. وهل فكرتم فى معنى الثلاثة حروف قبل كتابتها ؟

كم يبدو ساخراً أن تأمر أحدهم –والجملة فى صيغة أمر- أن يرقد فى سلام !! .. هكذا هى .. "حسناً .. شكراً ، لم أكن أنوى الرقود فى سلام ، لكن طالما أمرتمونى من خلال "فيس بوك" و "تويتر" فسأرقد طائعاً صاغراً" ............... عبث.

هل حديثكم للجسد أم الروح ؟ الجسد يسيدفن فى القبر .. والدفن ليس الرقود .. أنه التحلل ! .. أما الروح فلاترقد بل –مجازاً- تصعد ، شئون الروح أبعد من أن ندركها.

هل يملك الإنسان من أمره شيئاً بعد موته ؟ إذن لماذا نخصه بالأمر ؟ ... الأكمل فى رأىّ الدعاء له بالرحمة .. لا الدعاء لأهله أيضاً بالبقاء أكثر منه .. وهو دعاء لو تعلمون مؤلم جداً ... كيف أقول لأمه أن حياته كان لها بقية ولكنها بشكل ما تم اختلاسها وإداعها فى حسابك من خلال تصريحى بأن "البقية فى حياتك" ، ولتنعمى بأيام شبابه فى عَجَزِك و عَجْزِك بدونه بفضل عملية التحويل هذه !! .. من الذى اخترع هذا الدعاء الخيالى الإجرامى !

"الله يرحمه" .. تنزل على قلبى برداً وسلاماً .. أنا اعلم أن الله كان دائماً يرحمه .. كان يحكى لى عن رحمة الله به كل يوم .. الرحمة ليست فقط النجاة من العذاب والعقاب. "الرحمة" ذلك الصوت المُمَيّز لحرف الــ"ح" وهو فى حضن حروف أخرى كأنها تحميه ... الــ"ح" صوت الأنفاس الدافئة التى ننفخها على أصابعنا فى البرد لنسدفئ .. وصوت التنهد العميق .. الــ"ح" .. حب .. حنان .. احتواء .. حماية .. حنين .. راحة.

"الرحمة" هى الحب حين يتخذ شكلاً عملياً وينزل من الأدبيات لحيز التنفيذ .. هى مايرفع الحزن وأى ألم عنا فتصبح غاية مبتغانا فى الأرض وأيضاً فى السماء .. بل وتجعل للحب مذاق على ألسنتنا فتصبح غاية متعتنا فى الأرض ... ، ولا أعلم –صدقاً- مذاقها فى السماء .. فقط أعلم أنها الشىء الوحيد الذى تحتاجه عندك يا "خالد" ولا أعلم لها مصدر غير الله فــ"الله يرحمك". أعرف أنها يقين ولكنى اُثبته لنفسى بترديدى إياه.

و"الله يرحمنى" وهذا عهدى به منذ أن خلقنى ، ولكنى أحتاج رحمته الآن أكثر من أى وقت ، لأنى مقبل على حياة جديدة تماماً لا "خالد" فيها بصورة مادية .. فقط أشلاء ذكرياته.

فلأنفض أى حروف ستلتصق باسمى فى رحلة الحياة مهما زادتنى تبجيلاً ، ولأنتشل اسمك من بين مالحق به منها ن ولأربط اسمينا بلقب "المرحوم" ، أو ألحقهما بـــ"الله يرحمنا" لأنها ملخص وعنوان قصتىّ حياتينا ، حتى لو حزت رسمياً اللقب قبلى ..... فأنت "خالد" وأنا كذلك ، وسأظل أُذَكّر نفسى بــ"الرحمة" حتى نلتقى. لن آمرك أن ترقد فى سلام ، ولن أوزع "بقية حياتك" على أسرتك ومعارفك .. لأنى موقن أنك أتمّيت مقدمتك الأرضية ، وتستمتع بالحياة الحقيقية فى دار الخُلد.

هناك تعليقان (2):