الاثنين، 9 أكتوبر 2017

موسيقي الجاز التي أكرهها






     لم يكن طبيعيًا ولا منطقيًا، ومفاجئًا جدًا أن أبدأ بالبكاء .. فالنحيب .. فالصراخ المكتوم! .. أنا نفسي كنت اتعجب مما يحدث! .. فقت السيطرة علي نفسي تمامًا، وأرتعش كل جسدي بشدة، حتي سقط من يدي الطبق الذي كنت أجمع فيه قطع المخبوزات والجبن من علي بوفيه الإفطار المفتوح .. وأنكسر. الذعر كان في عيون كل المتسمرين حولي، وأنا في ذعر أكبر .. مالذي يحدث في ولي .. فليوقف أحدكم موسيقي الجاز تلك فورًا ... أنا أنهار!


***


     قبل زواجي كنت فتاة مدللة ومثالية .. ذلك النوع الذي يظهر علي أغلفة المجلات، وفي أعلانات الملابس الرياضية .. استقظ مبكرًا .. اتناول فطورًا خفيفًا صحيًا، أرتدي ملابس مريحة واخرج للتريض لساعة علي الأقل. لمّا كنت طالبة كنت أذهب بعدها للجامعة، أو أذهب لأحد الكافيهات الفندقية لاحتسي قهوتي الصباحية وأذاكر، وبعدما تخرجت وألتحقت بعمل حافظت علي روتيني يوم الأجازة، وكنت أجلس لأقرأ.
     هناك رآني لأول مرة، ولمّا قابلت محاولة التعارف بانسحاب متحفظ، ثار فضوله أن يعرفني أكثر، كل العاملون في المكان أصدقائي، فلم يعسر عليه معرفة أشياء كثيرة عني. تعجبت أنه طلب الارتباط بسرعة دون أن يكون بيننا سابق معرفة! طلبت مني والدتي أن أعطي له ولنفسي فرصة للتقارب، فوافقت علي مضض .. كنا نتقابل في نفس الكافيه. أخبرني أنه كان لديه مقابلة عمل في مبني مقابل ولما تأخر دوره خشي أن يجلس بهندامه الرسمي في قهوة بلدي، فاختار هذا الكافيه مضحيًا بثمن باهظ لفنجان قهوة وزجاجة مياه. تم قبوله في الوظيفة وشعر إني "وشي حلو عليه" وبانجذاب نحوي .. أنا أيضًا شعرت بشاعرية في قصة تقاطعنا في الحياة .. معاناته ومستواه الاجتماعي المنخفض كانا يمثلان تحديًا خاصًا لي .. كأميرة تضحي لتجعل حياة حبيبها جنة وافقت أن ألتبس الدور .. وجعلته حبيبي. كنا كأبطال فلمًا ملحميًا. موسيقي الجاز رافقت أول مشهد في قصتنا، وكل المشاهد اللاحقة في خلفية قصتنا.


***


    أدركت في فترة خطبتنا بخله الشديد، لكني أوعزت ذلك لحرصه وادّخاره لتجهيز شقتنا، وتأمين مستقبلنا. كان يقول لي إني فتاة مدللة جدًا -وكنت كذلك- وأن كوب الشاي الذي يكلف فعليًا نصف جنيه لايجب أن نحتسيه بأربعون ضعف لثمنه لمجرد أن نجلس في مكان مكيف يُشغل موسيقي الجاز. كان منطقيًا ومقنعًا .. ولكني كنت أحب الجلوس في الفنادق في الكافيهات من آن لأخر، خاصة في جلساتنا الرومانسية ومناسباتنا الخاصة. كنت أقول له أنها الفرصة الوحيدة لنتحدث ونحن ننظر لبعض -وهو مالايحدث ونحن نسير ونسير متشابكي الأيدي في الزحام- وفي مكان هادئ. كنت أعرض أن أدفع أغلب الوقت حتي لايمتعض، ومع ذلك كانت أغلب جلساتنا علي مناضد  المطاعم والفنادق والكافيهات مشاجرات نحاول فيها أن نبدو هادئين .. أن نظهر كعاشقين، يمسك يدي بأفتعال وتشنج .. ويطلب أشياء لانحبها لأنها الأرخص سعرًا .. نتناولها علي خلفية موسيقي الجاز. في تلك الفترة تسألت لأول مرة: لماذا موسيقي الجاز -خاصتًا التي يظهر فيها صوت الساكسفون- هي النشيد الرسمي والدائم لكل الأماكن السياحية الراقية؟؟ هل من أغنية عاطفية لتذيب الثلوج أو لأتأمل فيها فأشعر بشيء؟ أي شيء ..



***


     لسنة كاملة لم أتناول ولاشربة مياه خارج منزلنا! .. أدركت بشكل رسمي وعملي وقاطع أنه بخيل جدًا جدًا، حتي أنه يأخد معه برطمانات من الشاي والسكر والبن يوميًا وهو ذاهب إلي عمله، لكي يصنع منهم عامل الشركة مشروباته ولا يأخذ منه حساب للمشروبات أخر الشهر كباقي الموظفين، يذهب ويعود بهم يوميًا لأنه يشك في ذمة العامل الذي يكرهه! .. حاولت أفهامه أنه يجب أن يعطيه حتي ولو بقشيشًا صغيرًا تقديرًا لمجهوده في عمل المشروبات .. فرفض لأن الشركة تدفع له مرتبًا لذلك! .. أدركت أنه لافائدة من الحوار معه، ليس في هذا الموضوع فقط.

    لما عرفت بحملي كنت أعاني من حالة نفسية سيئة جدًا، أخرج الطبيب زوجي من الغرفة ليناقش سبب بكائي بحرية وأدرك بخبرته أنها ليست دموع فرح. سألني إن كنت أعاني من مشكلة ما .. أو لو أن هذا ليس زوجي! .. فصدمت من تخمينه وقولت له أن كل شيء علي مايرام، فأكد لي أنه ليس كذلك، وطلب مني أن أفعل الأشياء التي أحبها لأن هذا مهم لجسد ونفس صغيري القادم للحياة، وأنه يتأثر بشدة بكل كمياء جسمي إن كنت فرحة أو حزينة.

     كسرت كرامتي وذهبت لأبي أطلب مال! .. قولت له إني سأفعل هذا شهريًا لأسباب خاصة، ورغم الحزن والقلق الذي سوّد وجهه، إلا أنه بكل رُقيّه وأدبه المعهود لم يسألني عن السبب وطلب مني الاهتمام بنفسي وأن أطلب أي شيء في أي وقت بلا تردد.
    كنت أخذ جنيني لفندق جميل علي النيل، أطعمه الكرواسون بالجبن الذي أحبه، والذي أحَبَه من حركته المزامنة لألتهامي له. أحب موسيقي الجاز ورقص عليها وهو جنين. قولت له إني كنت أحبها أيضًا .. ماما ذاكرت وقرأت وأحبت علي هذه النوت الموسيقية ياحبيبي .. صوت السكسفون هذا كان أبي الروحي .. كان. ليكن لك حظًا أفضل معها، لاأُحبز أن أورثك انطباعاتي.


***


    عامين آخرين كنت فيهم بطلة .. بطلة لاستمر في الحياة ولاأقتل نفسي. لم لأفعل لأن طقلًا بهذا الجمال والذكاء والحنان لايستحق أن يعيش يتيمًا. لم يفهم أبي رغبتي في الطلاق، وقاطعتني أمي. أبي كان ظهري الوحيد في مواجهة المجتمع والناس وزوجي الذي اختار أن يذلني، لأني أخترت أن أعيش خارج مقبرته. الأجراءات لم تنجح في أن تتم بشكل ودي فلجأنا للقضاء. أخترت فندق قريب ليكون المكان الذي يحصل فيه والد أبني علي "حق الرؤية". وافق، وكان يأتي لينظر لي بتشفي ويقول للولد أني أضيّع عليه فرص للذهاب والملاهي والحصول علي كثير من الحلوي .. وأني لن استطع أن أوفر له كل مايريد لأني فقيرة بينما هو غني. يترك أبني ممزق من البكاء ويصرخ في وجههي أنه يكرهني ويحب أبيه .. ويمشي بدون أن يدفع حساب ماشربه وأكله مع أبنه. كل هذا كان يحدث علي خلفية موسيقي الجاز.


***


     بعد وفاة أبي أنكسر ظهري كان يجب أن أعمل لأصرف علي ابني لأن أبوه لم ولن يفعل، ومعاشنا قليل. حصلت علي وظيفة جيدة جدًا بسبب تعليمي ومظهري وطبقتي الاجتماعية. اليوم كله في الشركة يشغلون موسيقي الجاز في كل السماعات! .. كان هذا الجحيم بعينه! هل أترك وظيفة جيدة وفي مكان قريب من سكني وبمرتب كبير بسبب موسيقي الجاز! هل ستفهم أمي قدر معاناتي أو أي أحد؟؟ هي يحتمل إنسان أن يُتلي علي مسامعه تاريخ معاناته وقصة آلامه كل يوم وطول الوقت .. وأن يبتسم ويعمل باسترخاء ودأب علي خلفية هذه التلاوة؟

    لهذا السبب كان مزاجي متعكرًا طول الوقت، وانعكس هذا علي أدائي وعلاقاتي مع الزملاء .. حاجز من خيبة السنين يأبي أن يذوب بسبب موسيقي الجاز التي تجمع كل مواقفنا.

     يخبرني مديري أن أدائي غير مُرضي .. وأنه سيرسلني تدريبًا سيساعد في رفع كفائتي، ويمكن اعتباره كأجازة "تغيير جو" وارتداء ماأحب علي شاطئ جميل غير اللون الأسود الذي لم أبدله بعد وفاة أبي.

     تنفست الصعداء وامتننت للحياة التي تحاول أن تراضيني .. أسبوع بدون أبني وعلي شاطئ يمكن أن أغسل فيه كل ماضيّ، ومع اُناس لاسابق معرفة بيننا حيث يمكنني أن أكتشف من أكون غير تلك السيدة المنفصلة، والأم الكئيبة، والأبنة اليتيمة. ربما استعدت تلك الفتاة الظريفة التي كانت تحب الحياة والروايات وتعيش حياة مثالية.



***


     هل كل هذا لايكفي أن يقنع أمن الفندق؟ طبيب الفندق؟ مدير الشركة كي لايفصلني؟ كل النزلاء -مصريين وأجانب- علي مائدة إفطار الفندق ذو النجوم الخمس في تلك القرية السياحية الراقية؟. لايكفي بأن يقنعهم أن موسيقي الجاز التي تهدرها سماعات غير مرئية كفيلة بسحقي تمامًا لأني لم أعد احتمل ولو نغمة واحدة؟ وأن صوت الساكسفون لم يعد أبًا روحيًا، بل شيطان شامت يصرخ بفشل عمري وحبي وبيتي فيعذب اعصابي كتيار كهربي حارق يسري في جسدي؟ هي يمكن بأن يساعدوني بأن يخرسوها للأبد؟ أم اني سأضغط وأضغط وأضغط علي أذني لأمنع ثعبان الجاز من خنقي فأموت بعصر رأسي؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق