لأول مرة منذ زمن يجلس وحده بالمنزل شاعراً بكل هذا الصفو. أولاده الأربعة –محسن ونوال ونعيمة وعادل- عند دار عمهم ... اليوم ليلة حنّة أبنته ... طرب وملاح حتى منتصف الليل ... سيذهب بعد قليل ليجلس مع "رجالة العيلة". الصبيان والبنات ذهبوا من الصباح الباكر ، ينقل الصبيان "الشوار" ، بينما تساعد البنات الأم فى العجين وفطير العروس ، مع الأغانى والرقص ... لهذا السبب غاب عادل ونعيمة من المدرسة اليوم ، وكذلك محسن من مدرسة الحقوق. عاد من الديوان فوجد الدار خالياً .. أوصل محسن البنات لدار عمهم ، وأخذ عادل معه فى مهمة النقل. وافق على أخذه بعد إلحاح ... أدعى محسن أن عادل صغير وسوف يقوم بشغب يلهيهم عن المهمة التى هم ذاهبون ن أجلها. بكى عادل وتمرمغ على الأرض وملأ الدنيا احتجاجاً ... نهره أبوه وضربه لاسلوبه المرفوض فى الاحتجاج وأصدر فرماناً يسرى على عادل ومحسن بأن يذهب عادل مع أخيه الكبير ولكن إذا بدرت منه أى نازعة شغب أو تمرد فسيحضره محسن أو محروس –أبن عمتهم- للبيت ويُحبس وحده فى أُوضة الخزين. وافق عادل وهو يكاد يطير من السعادة وجحده محسن بنظرة نارية مستسلماً فى خضوع لقرار والده.
مُحسن ... أكبر أولاده يدرس بجامعة فؤاد بمدرسة الحقانية. كان هذا أمل والدته –رئيفة- أن ترى أبنها "أفندى" كوالده ... رزين جدا .. ليس له فى أمور اللهو والترفيه التى للصبيان الذين فى مثل سنّه. لايجلس إلى مقاهى أو يرتاد أى "تياترو" ... وغير مهتم بأمور المغنى ولاسيرة الهوى والحريم. يبدو كصندوق سِرّ مغلق ... كـ"شكمجية" ضاع مفتاحها ... وبائت محاولات عبد الحميد لمصادقته بالفشل ... فتركه لراحته. مع ذلك فهو أبن بار ومطيع ،وتلميذ مجتهد ، وإن كان معزولاً عن أخوته .. بلا اصحاب تقريباً ، ولايشارك فى أمور السياسة كزملائه.
يتنهد عبد الحميد مرة أخرى –بعد أن أصبحت تنهيداته بلا عدد- وهو يتذكر أن رئيفة هى "اللى كان ليها سكة مع الولا" .. ربما حالة الصمت هذه لازمته بعد وفاة أمه ، لأنه كان "بكريها" وقرّة عينيها الذى تخصه بالنصيب الأكبر من الاهتمام.
نوال أصغر منه بعام ونصف ... "حِتّة من أمها" .. بنفس وجهها الصبوح وصوتها الجميل وعودها الملفوف كالغوازى. ضحكتها نفس ضحكة أمها التى تفيض حنيّة وسِحر بنغزتان تبدوان كمسمارين جاءا ليثبتا تلك اللوحة الخلابة ويشداها وجهها المستدير المنير كالقمر.
نوال ذكية –كأمها أيضاً- و روحها "نغشة" ، انتهت من التوجيهية بتفوق. حظها قليل ... لم تتزوج حتى الآن رغم أن قريناتها أمهات ، لم تتزوج لا لقلة خطابها ، بل لأنى لم أجد من يصونها ويليق بها ... معظم الرجال يأتون لسمعة الأسرة أو لجمالها الساطع من تحت نقابها فى خروجاتها النادرة للسوق أو لبيوت العائلة ، ولكنى أريد من يقدّرها ويحترمها كما قدّرت واحترمت أمها. لم أرى أمها قبل الزواج ، ولكن الزمن غير الزمن ... والبنت متعلمة. تستحق من يحبها ويعطف عليها لشخصها ولايراها فقط وسيلة للإنجاب ومدبرة منزل. لم ترفض أى عريس –وليس من حقها أصلاً- ولكنى من يرفض أن يُسلّم "حورية" مثلها لأحد المْعَلّمين" الفظين أو الشباب الخِرِع.
عادل ونعيمة توأمان ... اسميهما يثيران فِىّ حالة من الشجن والحب والعطف والذكريات يصعب وصفها. الله يرحمها رئيفة ماتت أثناء انجابهما ... لم يتحمل جسدها النحيل الذى ذاب فى خدمتى وخدمة محسن ونوال –دون كلل أو شكوى- نزالع ولادة طفلين يتشاجران ويلهوان وهما جنينين. ابتلعت أحزانى على رفيقة عمرى وملكة قلبى المتوجة وملاك حياتى ، وتجلدتُّ أمام طفلىذ الكبيرين ، بينما احتضنت الوليدين الصغيرين كالقطط ، عازماً أن أعوّضهما غياب الأم الذى لايعوّض ... خاصتاً إذا كانت الأم رئيفة.
ألحّت علىّ وديدة –شقيقتى- كثيراً أن أتزوج ، خاصتاً وأن الكثيرات يتمنين أن يعشن فى كنفى ويرعين بأخلاص أولادى ، ولكنى دائماً كنت أرفض حتى يأست وأمتنعت عن المناهدة ... لا ولم ولن تحل مكان رئيفة أى مخلوقة مهما كانت ... فرئيفة لامثل لها ... ثم أنها لم تفارقنى تماماً ... مازلت أناجيها واستشعر حبها يربت علىّ كلما تزاحمت فى نفسى الهموم والمسئوليات الأولاد.
كبر عادل ونعيمة كالزهوز الجميلة فى حضنى ... وأنا كالبهلوان يحاول السير على حبل التوازن مابين تدفق حنان و"دلع" الأم وحزم وشدة الأب. محسن ونوال أيضاً يتحركان حولى فى أدوار كثيرة مابين أصدقاء مساندين ، وأقرباء داعمين ، وأبناء متمردين ، وأجزاء منى تسكن معى فتشعرنى بالاكتمال.
وديدة لم تدخر جهداً منذ وفاة رئيفة فى دعمى ومشاركتى ، أختى الكبيرة .. والوحيدة التى تسكن البندر معى ... ليس لديها إلا ابن وحيد .. محروس .. ولد خلبوص على النقيض محسن تماماً ... كثير الكلام والمزاح والضحك والغناء ... ، والحق أنه شهم ومهذب أيضاً .. يأتى فى أى مكان فيُحدِث ضجة ويثير الضحكات ويقدم "نِمّرة" كالمونولوجست.
تأتى وديدة إلىّ كثيراً بالوجبات المميزة التى لا اُحسن صنعها أنا أو نوال. تتسوق مع نوال لتشتريان لنا معاً الملابس والمفروشات والبقالة وغيرها ... . تبيت معنا مهملتاً بيتها –ورغم فداحة أن تبيت حُرمة خارج بيت زوجها- إذ ما أصاب أحدنا –نحن الخمسة- مرضاً ، أو أى مصاب. تُسخّر محروس لخدمتنا إذا ما احتجنا شيئاً أو حتى لم نحتاج. والفتى لا يتأخر عنّا رغم أنه كثير الصدقات وله فى جلسات الأنس باع.
يتنهد عبد الحميد ويرفع كفاه عن وجهه فيجدهما بركتان !. "بزيادة ياعبد الحميد .. أنت بتبكى زى الولايا ولا إيه؟!" .. هكذا يقول بصوت مسموع ساخطاً على ضعفه ، ثم مستسلماً ... "مفتقدك جدا يارئيفة .. سبتينى لوحدى مع العفاريت دول ليه بس" ... يستغفر ربه مرتان ثم يمسك طربوشه ليضعه على رأسه تأهباً للنزول فيسمع احتجاج أمعاءه .. يتذكر أنه لم يطه طعاماً اليوم ولا نوال فعلت. بتأكيد أكل الأولاد عند عمهم ، وسأتعشى أنا هناك فى وليمة الرجال مع أغانى الربابة والعود الموشحات ... ولكنى الآن جائع .. لامانع لو تأخرت قليلاً وأكلت مايسند القلب حتى موعد العشاء.
ينهض عبد الحميد إلى المطبخ ... "الحِلَل" كلها مغسولة ومرصوصة تعلن براءتها من حيازة أى طبيخ طازج ... يفتح "النمليّة" .. هنا خزين بقايا الطعام من الأيام السابقة ، لكن ولا طبق يحوى كمية تتكفل بأشباعه ... يفكر فى فكرة مجنونة ! ... يخزى الشيطان –صاحب الفكرة كما ظَنّ- ثم يتعاقد معه ... سينفذها ! ... سيمزج كل الأطباق معاً .. يضحك .. "يخرب مطنّك يا عبد الحميد ! إيه حركات العيال دى .. دا لو الواد عادل عملها كنت كسّرت عليه الخرزانة" ... ثم يشعر بالإثارة التى ترافق الشباب وتدفعهم للمغامرة .. لم يشعر بهذا الشعور قبلاً ، لأنه كان أبعد مايكون فى حياته عن كسر المألوف .. ولكن هو الآن وحده وسيجرب جديداً لم يفعله قبلاً.
يُحضر طبقاً نظيفاص مرتفع الحافة ... ويبدأ بوضع بقايا الأزر ... هو متخصص إعداد الأرز بالمنزل ولم يسمح لأحد –حتى نوال ووديدة- بإعداده غيره ، وجبة ثابتة يومياً تقريباً مع كل أنواع الخضر والطبيخ ، ولم يعرف أحد سر احتكاره للأرز وحرصه شبه اليومى عليه .. مع أن السر ببساطة فى كلمة واحدة ... "رئيفة".
كانت رئيفة تثق فى الأرز ثقة عمياء –تكار ترقى لمنزلة العقيدة- أن الأرز هو الطعام الأمثل والأكمل للإنسان .. كانت تفرضه كلبن الأم على عبد الحميد ونوال ومحسن ... تراه المُسبب الوحيد للشبع والصنف الوحيد الذى بدونه لايمكن أن تسمى وجبة "الغدا" إلا عبث.
رائحة الأرز تذكره بها ، طعمه يذكره بأمومتها وخوفها عليه ... لونه يذكره بوجهها. يعتبر الدقائق التى يقوم فيها بطهو الأرز خلوة معها يناجيها فيها .. لمّا يصب الماء عليه يتخيل أنه يسقيها .. ولمّا ترتفع أبخرته يراها بقوامها الغزلانى تصعد هناك .. يتخيل إنها ترسل له رسائل بتوتيب "الشِعريّة" عى وجه الإناء .. مرة يرى ابتسامتها ، ومرة يرى عصافير ومرة يرى ضفيرة كضفيرتها .. يبدو الأمر هزلياً لذا لم يخبر به أحد ، ولكنه سره الخاص الذى يمنحه الصبر والتعزية على فراق مُكَمِلَته حتى يلتقيا .. "آآآآه .. الله يرحمك يارئيفة".
ثم بلا تردد يضع بقايا المكرونة فوق الارز مباشرتاً. المكرونة وجبة عادل ونعيمة المُفضلة ... يأكلانها بشراهة حتى أصبحا بدينين ... وعليلين ! .. يرفضان الخُضر بشدة .. فأصبحت لا أسمح بها إلا قليلاً مع أنها الأسهل بالنسبة لنوال. يضعها فوق الأرز ويخلطها بهدوء .. كم كنت أتمنى أن يذوق الصغيران حضن أمهما ليعرفا معنى الحب الحقيقى ، والأمان الذى لم يتجلى لنا إلا بين ذراعيها وصدرها ... اللهم لا اعتراض. أشعر أحياناً بروحها تحرسهم وهما نائمين ... توقظنى ليلاً وتنهضنى لأرفع عليهما الغطاء الذى أنزلق أثناء نومهما.
نوال تحمل شذى من أمومتك ... ألمحه فى نظرتها لهما ... وفى تخيطها لزر هارب من ملابسى وإعداد الشاى لمحسن أثناء مذاكرته. نوال تحب العدس الأسمر ... لذا لأضعه فوق خليط الأرز والمكرونة. لا أعرف لماذا تحبه وحدها فى المنزل بمزاج متفرد ، ولكنى أتذكر مرة أفلت منها اعتراف أنه يذكرها بى! ولمّا طلبت الإيضاح تلعثمت ولم تجب ! .. لم أُلح عليها ، فأنا لن أفصح ابداً عن سرى ... واحترم –رغم فضولى- أن يكون لها سرها.
نسيت أن أضع صلصة طماطم المكرونة قبل العدس فوق المكرونة ! .. هل أضعها الآن ؟؟ .. لِمَ لا .. إذا كان عادل ونعيمة يسكبان من طفولتهما وشقاوتهما علينا كلنا طوال الوقت.
أضيف قليلاً من تقلية البصل المتبقية من وجبة "الكِشك" التى احضرتها وديدة .. تعرف إنى أحب الكِشك جدا ونوال لاتتقنه ، لذا تحضره لنا كلما صنعته لبيتها .. وأحياناً تصنعه لى خصيصاً .. لا أحبه بدون تقليه لذا تُكثر منها حتى تفيض كما تبقت الآن من بعد اتهائنا منه ... وديدة روح تحتوينا كلنا وتشملنا بالرعاية ... تبدو لحياتنا كظواهر الطبيعة –كالشمس والأنهار والهواء- التى لاتنتظر الدعوة لتدخل حياتنا ، أو الشكر بعدما تخدمنا.
لم يتبقى فى النملية شىء إلا كوب من "الحلبسة" .. حمص الشام فى محلولة الملحى مضافاً إليه تلك الإضافات السحرية من الشطة والليمون والتى تجعله يستحق ذلك الاسم المبهم كالتعويذة ... "حلبسة" !. يحضره محروس –ابن وديدة- كلما أتى لزيارتنا .. نتسلى به فى ليالى السمر الشتوية وهو يحكى لنا قصصه الفكاهية المُختَلَقة ، أو الروايات الأفرنجية التى يقرأها.
يصبُ ماء الحلبسة فى الحوض وينثر الحبات على وجه الطبق وهو يغمم مع ابتسامة طفولية .. "ليست الحياة مأساوية وجامدة رغم أى شىء .. فالضحكات التى ينثرها محروس على أفواهنا تجعلها ألذ وأجمل".
ينتهى عبد الحميد أفندى من كل الأطباق وينظر للطبق الجديد الذى بحوزته ... للحظة يشعلا نحوه بالـــ"قرف" ! .. خليط غير متجانس من الأطعمة يبدو فى منظره كصفيحة القمامة وهى تجمع بقايا الطبيخ الغير مرغوب فيه ... ثم يغمض عينيه ويفتحهما فيشعر نحوه بعاطفة جبارة ! ... هذا الطبق هو خليط من كل الحب الذى فى حياتى ! .. يتذكر "دلع" وديدة لعادل ونعيمة وهى تدغدهما فى بطنيهما .. "هاكلكم كلكم هَمّ هَمّ ومش هاسيب منكم حتة" .. كان يصمت إزاء اسلوبها الوحشى فى التعبير عن الحب ! .. يراه أليق بقبيلة همجية من آكلى لحوم البشر .. يتعجب من رد فعل الصغيرين أنهما يضحكان عوضاً عن أن يصابا بلوثة رعب.
الآن سيأكلهم كلهم ! .. يحضر ملعقة كبيرة .. يملأها من الخليط وهو حريص على ألا يُفلِت أى مكوّن من مكوناته ... يغمش عينيه وهو يدسها فى فمه بهدوء ... تضربه صاعقة من السماء ! ... تسرى فى جسده شحنات تغزو كل كيانه ... يشعر بمتعة غريبة تفيض على كل خلاياه ... يمضغ فيشعر إنه يُقلّب عالماً من الأرواح .. يحرث محيطاً من المشاعر ... يموّج فضاءاً ساكناً من الوجود البكر الغير مُكتشَف ... ينزل الطعام إلى جوفه وهو موقن أنه سيصبح بعده شخصاً آخر ! ... فإذا كانت هناك مقولة لايعلم مصدرها تُصرّح بأنه "أنت ما تأكل" .. فاليوم هو سيصبح كياناً جديداً.
يَهِمّ بأن يأكل ملعقة ملعقة أخرى فيستفيقه طرق على الباب ... يترك الطبق على النملية ويعود لواقعه ، يفتح الباب فإذا صبى من ورشة أخيه يخبره أنه –أخوه- "بيستعوقه" .. فهو الوحيد الغائب من أعمام العروسة .. يغمم بكلمات أسف وينظر نظرة طويلة باتجاه المطبخ .. ثم يسحب الباب ويخرج.
***
يكاد يجن ! ... لمدة أسبوع لايشغله إلا هذا الموضوع ، يسحب من تركيزه فى أى أمر أخر .. "مَنْ الذى ألتهم الطبق الذى قام بتركيبه ؟!" .. لم يجروء أن يسأل أولاده ، لأنه لايجروء أن يشرح محتوى الطبق .. لكنه يريد أن يعرف ...
-مالك ياعبد الحميد يا أخويا .. سرحان ليه ومش بتاكل ..
-مافيش ياوديدة ...
-مش عاجبك الطبيخ ؟؟ ..
-لأ العفو ياستى كتر خيرك وتسلم إيديكى ..
-تسلم يا أخويا ..
-إلا بالحق يا ولاد كان فى طبق كدة .. طبق فيه أكل .. كنت سايبه على النملية يوم ليلة حنة بنت عمكم .. حد فيكم أكله ؟؟
-طبق فى إيه يا بابا ..
-مش أنا يا بابا ..
-أنا يا بابا !
مُحسن ! ... أخر ماكان يتوقعه .. كان يظنه أحد الصغيرين ، أو نوال لأن "نِفسَها حلوة" وتأكل أى شىء بلا تذمر ، ولكن مُحسن بمزاجه الضيق فى الأكل ! ... نظرة عينيه ولمعتهما وهو يعترف وينظر فى عينيى أبيه مباشرتاً والابتسامة العجيبة التى أشرقت على ملامحه .. كل هذا يدل على أنه أدرك السر الذى يسكن هذا الطبق ..
-آه .. طيب ... ماشى ..
-هو كان فى إيه الطبق دا يا أخويا ..
-إيه .. ولا حاجة ياوديدة .. شوَيتّ ... يعنى بواقى أكل ..
-لأ قولّى وحياتك كان فيه إيه بالظبط لأنه طالما عجب سى محسن يبقى يستاهل إنى اعرفه واعمله .. دا مابياكلش من إيدى حاجة تقريباً.
-ياااه .. أخيراً عجبت الكِشَرى أفندى اللى عايش دور الزاهدين ..
-أخرس ياواد يامحروس .. ماتقولش على ابن خالك كدة ..
-وهو أنا بتبلى عليه ياأمّا ... ماهو على طول كِشَرى ومش بيورينا سِنانه .. عامل نفسه قاضى من دلوقتى .. دا أنا أول مرة أشوفه بيبتسم دلوقتى وهو بيقول أنه أكل طبق خالى ..
-خلاص يامحروس بزيادة ! .. ممكن اعملكم –ونوال تساعدنى- الطبق دا يوم الجمعة علشان هو فيه كذا صنف فلازم يبقى يوم أجازة .. وأنتى ياوديدة أبقى هاتى تقلية بصل من اللى بتعمليها للكِشك ... وأنت ياواد يامحروس .. هات كمية من اللى ... اللى أسمه إيه دا حمص الشام اللى بتجيبه ..
-الحلبسة ياخال ؟
-أيوة هو دا ..
-يحيا العدل .. دا أحنا شكلنا هانهيص على شرف أكلة الكِشَرى أفندى ...
-وأنا كمان عايز أكل أكلة الكُشَرى يابابا ...
-هاهاهاها ... أسمه الكِشَرى ياعادل ، قصدهم يعنى اللى مش بيضحك ..
-لأ ماليش دعوة يانوال أنا عايز أكل الكُشَرى ..
-طب خلاص خلاص .. تعالى ياوديدة أنتى و محروس سوم الجمعة من بدرى .. وأنتى يا نوال إيدك معايا ..
-من عينى يابابا ..
***
-يالهوى ياخال ! ... هو حضرتك جبت فكرة الأكلة دى منين ؟
-أيوة ياسى عبد الحميد .. بجد حلوة .. دا أنت ياخويا بقيت أحسن منى فى الأكل ..
-الحقيقة دى كانت .. يعنى .. صدفة .. زى ماتقولوا كدة .....
-بابا .. بابا ... أنا عايزة كُشَرى كل يوم ..
-ياعيب الشوم البت نعيمة لسانها أتعوج زى أخوها .. الله يجازى شيطانك يامحروس ، كان لازم تتريق على ابن خالك ؟؟
-طب ياخالى إيه رأى حضرتك أن الأكلة دى أختراع مش أقل من الراديو ..
-ياه .. الراديو مرة واحدة ! ... بطّل بكش ياواد يا محروس ...
-ياخالى انا بتكلم جد .. طب حضرتك تسمح تبيعلى الفكرة ؟ .. أنا عندى دكان أبويا مش عارف أعمل فيه إيه ... مش عايز أشتغل تاجر "مانيفاتورة" وأبيع قماش للحريم .. الحريم دول أصلهم دماغهم بعيد عنكوا ...
-ولد ... أختشى ... بنات خالك قاعدين ..
-خلاص ياأما ... كنت بقول اعملُه مطعم .. الأكل أكتر حاجة بتكَسّب فى البلد اليومين دول .. الناس بقت بتخرخ تشتغل من صباحية ربنا ماعندهمش وقت يرجعوا بيوتهم يكلوا عند حريمهم ... العيشة مابقتش مريحة زى زمان ...
-يابنى أنت جرا لعقلك حاجة .. مين هايرضى ياكل "العَكّ" دا !!
-ياخالى ماهو عجبنا كلنا أهو ... وبعدين دا لذيذ وبيشبع جدا وحاجته كلها رخيصة ومتوفرة .. وأهو يبقى بالطلب .. اللى بيحب الرز زيادة نزودهوله .. واللى يحب العدس ناقص ننقصهوله .. واللى بيحب الصلصة نغرقهوله .. وكله بتمنه ...
-يابنى ماتسيبك من التخريف دا وتدوّر على شغلانة ميرى ...
-ياأما ماأنتى عارفة إنى لو كنت عايز أشتغل فى الحكومة كنت اشتغلته من زمان .. أنا مش عايز ابقى أفندى .. لمؤخذة يا خالى ...
-أمال عايز تبقى إيه ياروح أمك ..
-عايز أبقى أبن جنيّة ياوديدة ياعسل ..
-ولد أختشى !
-خلاص .. هاياخال .. إيه رأى حضرتك ؟
-هاقولك غيه يامحروس يابنى .. أنت راجل مسئول عن نفسك مش لسة عيل .. ، أعمل اللى أنت عايز تعمله ..
-وهاسمّى المحل والأكلة دى "الكُشَرى" كرامة لمحسن وعادل ونعيمة ..
-هيييييييه ... بجد يا أبيه محروس ؟؟
-بجد ياعادل .. إن شالله يكون عجَبِك الاسم يانوال ، لو مش عاجبك أغيرُه علشان عيونك ، واختارى الاسم اللى يعجبك ..
-لأ حلو يامحروس .. ربنا يوفقك ويزيدك من نعيمُه ..
***
نجح محل محروس نجاح ساحق منقطع النظير .. أحبَ الناس "الكُشَرى" وأقبلوا عليه كما الفول والخبز ... أصبح جزء من تكوينهم الغذائى .. وامتد كالنار فى الهشيم من الحارات الضيقة للميادين والمدن فى كل مصر. لم يلاحق محروس افتتاح دكاكين لبيع الكُشَرى فأقتبص –بعقله الجهنمى- فكرة عربات الفول .. ودشّن فكرة عربات و"نصبات" الكشرى وأطلقها لتخترق الأزقة والأحياء الصغيرة الضيقة ...
فى غصون سنوات صار محروس من الأعيان ، وعبد الحميد أفندى يتابعه بأنبهار .. تزوج محروس من نوال التى كان يحبها فى صمت واحترام لخاله الذى فتح له بيته وأئتمنه على شرفه .. وأغدق عليها من حبه وحنانه وجنانه وغناه .. ماجعلها أسعد نساء الأرض ..
حكى عبد الحميد أفندى لمُحسن سَرّ الكُشَرى ، وحكى محسن لأبيه كيف أنه يحبه ويحترمه ويُقدّره ويعتبره قدوته الوحيدة فى الدنيا وأن صمته ليس إلا محاولة للتوحد مع نموذج أبيه وتركيز أرادته وطاقاته لتحقيقه فى نفسه. كشف له أنه يُقدّر الجزء العاطفى فى شخصيته والذى يراه فى الوفاء لأمه المتوفاه وعنايته لأبناءه بحب وحنان ، وهو لا يرى أبداً أن هذا ينتقص من قوته هيبته –كما يظن عبد الحميد عن رأى أبنه فيه- بل بالعكس ... هذا يجعله رجلاً .. ليس ككل الرجال.
يشعر عبد الحميد بالامتنان للكُشَرى الذى كان السبب فى غنى محروس ، وعليه جاء زواج أبنته ممكن أحبها وأحبيته وعيشتهما الرغدة. كما كان السبب فى كسر الحواجز النفسية –الجليدية العملاقة- بينه وبين محسن –وهو الإنجاز الأكبر فى حياته كلها- وكان أيضاً رفيقاً لبلوغ عادل ونعيمة ، إذ صار وجبتهما المفضلة ، من يد ابيهما أو فى دكاكين محروس أبن عمتهما وزوج أختهما.
***
فلت الزمام من يد محروس .. وأخاره هو بكل رضا –وإن كان لم يكن يستطع منع انفلاته- وصار الكُشَرى فكرة أروج من أن يقدر أثبات نسبها له ... أصبحت فكرة شعبية ككل الأطعمة التى تنتمى للمصريين ولايعرف أحد أين وُلِدَت وما ظروف نشأتها ..
أصبح "الكُشَرى" وجبة تكاد تكون أزلية فى ضمير المصريين .. يحفظون صورة ذهنية وشعورية لها كثمرة من ثمار الجنة التى تجاهلها آدم ، والتى لو كان التفت إليها لسببت له السعادة والصحة ومنحته الجنسية المصرية –دون غيرها- بكل تفاصيلها الكثيرة التى تميز آكلى الكُشَرى وتوحدهم.
***
-ها ياشباب .. هاناكل فى "ماك" ولا "بيتزاهت" ولا نطلع "الفودكورت" فى المول وكل واحد يختار اللى يحبه بدل مانقعد سنة على مانتفق ؟
-نطلع "الفود كورت" ناحية الأكلات الشعبية ... فى هناك واحد بتاع كشرى "واو" جداً
-آه ماشى ياشعنونة ... أنا موافق ، أنا كمان بحب الكشرى ..
-تامر .. بما أنك مثقف الشلة .. تعرف الكشرى دا أصله إيه ؟ ... يعنى إيه "كُشَرى" أصلاً ؟؟
-ممم .. لآ الحقيقة ياأبو محسن ماعرفش .. ماأنت مزروع طول اليوم ع النت مادورتش ليه ؟ ... ولا قاصد تحرجنى قدام البنات ...
-بنات إيه ياعم ، هما اللى فى شلتنا دول بنات .. لأ انا بتكلم جد .. الموضوع دا فعلاً شاغلنى ياأبو محروس ، ومين قالك إنى مادورتش .. لقيت شوية رغىّ صغيرين مالهمش لزمة على ويكيبديا ... وباقى المواقع فيها وصفات بس. بيقول أنه أكلة مصرية وفى تسريبات للشام والعراق أخدت طابعهم .. بس برضه عايز أعرف .. مين أول واحد فكر يعمل كُشَرى ؟ وليه سماه بالاسم دا ؟
-يعنى أنت عارفة مين أول واحد عمل تورتة "الملفاى" وليه سماها الاسم دا ؟ .. مابلاش فزلكة.
-أنا برضه مش عارف أشمعنى الكشرى اللى شاغلنى كدة .. بس حاسس أنه وراه سِرّ مش عارف ليه ...
-سِرّ .. سِرّ إيه يا أبو سِرّ ... دا تلاقى واحد فقير كان عنده باقى تموين وبقول لخبطهم وأكلهم وإحنا من هبلنا بنقلده ، عموماً الموضوع دا أكيد قديم قوى .
-يعنى "أبو طارق" مش هو اللى أخترعه ..
-ممم ... مش عارف ... أنا سألت مامى بس برضه ماكنش عندها فكرة ، ولقيتها عايزة تعرف زىّ
-ياعم طنط نوال دى عسل .. سيبك أنت ، نطلبلك دقّة شطة زيادة معانا ولا هاتكله ع البارد ؟