يُحكى أنه فى قديم الزمان كان يوجد مدينة تسكنها قبيلة من الدببة تسمى "مدينة الحب". سُميت هكذا لأنه لم يكن لسكان المدينة وظيفة ولا عمل غير أن ينشغلوا بمحبة بعضهم بعضاً !. فلا أحد يفعل شيئاً لنفسه ، ولكن لأى دُبّ آخر غيره. تطهو دَبّة الطعام لجارتها التى تذهب لتنظيف منزل أخرى ، وهذه الأخرى بدورها تغزل الملابس لآخرى ... وهكذا.
أيضاً الدببة الذكور ، يذهب أحدهم لصطيادفريسة ليعطيها لجاره ، بينما يجمع جاره العسل البرىّ من الغابة لجاره الآخر الذى يبنى مع آخرين بيت هدمه المطر لأسرة فى أخر المدينة.
بقى أمر هذه المدينة سرى وغير ذائع لسببين ، الأول طبيعة سكانها ... فكلما أقترب أحدهم من المدينة –مسافراً كان أو تائهاً- ويرى دُبّ هنا وأخر هناك يهرب مذعوراً ... منظر الدببة –مهما بلغ لطفها- غير مشجع أبداً أن تُعانقها أول ماتراها ، كما أنه معروف عن الدببة أنها كائنات غير مستئنسة ... فلا يتوقع إنسان منها إلا أن تفتك به بمجرد أن تلحظه.
السبب الثانى هو خمول أفراد المدينة ، إذ يشعرون بالاكتفاء والاستغناء عن التواصل مع العالم الخارجى. عندهم كل شئ ويتكافلون فيما بينهم ، فلماذا يعلنون عن أنفسهم ؟؟. الدببة كسولة إلى حد رهيب ، وهل هناك كسل أكبر من أن يقضى كائن فصل كامل من العام نائماً ، فيما يسمى بــ"البيات الشتوى" ؟.
بقى أن نذكر بلا تردد أو حياء أن أكثر ماكان يميز سكان هذه المدينةهو الغباء !!. والغباء الشديد ... لكنهم كانوا لايلاحظون هذا تبعاً لقاعدة مرأة الحب العمياء. ولأنهم كانوا كبهم كانوا أغبياء ، فمَنْ الذى سيقف على الربوة ليخبر الباقين أنهم فى اسفل وادى الغباء ؟؟.
كانوا يحبون بعضهم بعضاً جداً جداً ... ذلك الحب الذى يجعل المُحِب ينسى ذاته أمام مَنْ يحبه. وبسبب ذلك الحب العنيف كانوا يموتون بطريقة غريبة ! غريبة جداً !.
كانت لهم طريقة مزعجة جداً فى التعامل مع مشكلة بسيطة –أو هكذا يحسبها البشر- فأول مايلحظ دُبّ ذبابة أو نحلة تقف على وجه دُبّ آخر تنتابه حالة هياج جنونية –من فرط الحب- ويمسك بأقرب حجر ليهوى بع على وجه "حبيبه" ليرديه قتيلاً ... بعد أن يكون قد قتل الحشرة ، أو أفزعها لتهرب !!
هكذا كان يموت الدببة أثناء نقاش ودىّ ، أو أثناء تناول الغذاء فى حديقة. لم يشعر دب بالذنب يوماً لقتله آخر ! ، بل كان ينتابه ذلك الفخر النبيل لقيامه بواجبه ، ولدفعه الأذى عن صاحبه. ولم يطوّ رالدببة طريقتهم فى إبعاد الحشرات الصغيرة الطائرة أو يفكروا فى تغييرها.
حتى جاء يوم قرر فيه سكان المدينة احتفالاً بالربيع الموسمى وربيع الحب الدائم إقامة احتفال ، وليمة كبيرة من العسل –الوجة الأولى المفضلة للدببة- فى حديقة غنّاء تقع فى منتصف المدينة ... اجتمع الجميع كم كل الأعمار والفئات حول مائدة العسل العملاقة ، ولكن ..... العسل جاذب بشكل مغناطيسى للنحل والذباب !! ... وما أن فتحوا أغطية الأوانى لتبدأ الوليمة حتى بدأت المذبحة !!.
فنت كل مدينة الدببة فى ذلك اليوم على "مائدة الحب" بأغرب حادث "رجمّ" فى التاريخ الواقعى والأسطورى ، إذ هلك الجميع بلاذنب ولا علّة إلا الحب الجارف الذى صنع من كل دب قاتل ومقتول !
**********************
دبة واحدة فقط نجت من تلك المأساة ، إذ كانت تعانى من مرض عضال ألزمها الفراش. ولمّا استغربت تأخر الدببة ليمارضوها –كعادتهم- خرجت متحاملة لتفاجأ بالمدينة خالية تماماً !!. طال انتظارها لظهور أى دب ، حتى دفعها الجوع والعطش لأخد خطوة جديدة.
لم تفكر أن تساعد نفسها بأى شكل ، ولكنها فكرت فى أن تبحث عن مَنْ يساعدها. هكذا مبدأ الدببة لا أحد يساعد نفسه –حتى فى إبعاد ذبابة- وعلى كل واحد أن يساعد كل واحد.
سارت بأتجاه باب المدينة ... خرجت للصحراء تنتظر مُعين ، مرت فى سكة الخروج بالبئر والسوق والمخبز ... كأنهم من حجارة. جاء الليل فنامت من التعب ، لمّا أستيقظت وجدت قافلة تجار تُخيّم بالقرب منها ... ففرحت وجرت تجاههم.
كانوا يشعلون نيران للشى ويتسامرون حولها ، ولمّا أبصروها قادمة أصابتهم حالة من الهلع ، توقع الجميع أن الدبّة تطمع فى الفريسة المعلقة فق النار ، فتفرقوا مزعورين من حولها.
واحد فقط لم يجرى ... كبير التجار ومالك القافلة. أدرك أنه لاجدوى من الجرى أمام دبّة ، وتذكر أنه من الأسلم التظاهر بالموت أو السكون ، لم يتحرك من مكانه وبقى ساكناً ، لكنّ كأس الشراب –رغماً عنه- سقط من يده المرتعشة بالخوف. وبفطرة الدبة وبحسب دستور مدينتها هرعت لتملأ الكأس للرجل وتقدمها له. أخذها بتوجس ، ولكنّ الدبة أكملت طقسها وراحت تقلّب الفريسة على النار حتى نضجت لتقسمها وتضعها أمام أماكن رجال القافلة ، الذين عادوا أماكنهم وهم غير مصدقين سلوك الدبّة.
*************************
لم يمر يومان حتى صارت الدبّة هى الصديق الألصق لكبير التجار ... كانت تهتم بكل مايخصه ... تعتنى به بشكل مبالغ فيه ، تحميه بروحها ... لدرجة أنه فكر فى الاستغناء عن كلابه المدربة لمّا يعود لبلدته.
أما باقى أفراد القافلة فكانوا منبهرين بطاقة الحب متركزة فى هذا الكيان ، حتى أنهم صاروا محمومين بها. صارت الدبة –فى بشاعة شكلها- رمزاً للحب بينهم ، فصنعوا بخاماتهم البسيطة المتاحة لديهم دُمى للدبة ليهدونها لأطفالهم عند عودتهم ، كما كتبوا رسائل لزوجاتهم وحبيباتهم وزينزها برمز الدبة كناية عن الانشغال بالمحبوب.
**********************
مرت الأيام سريعة حتى جاء اليوم الذى كان فيه كبير التجار يسترق النوم ساعة القيلولة فى خيمته –والبة معه- يجاوره طبق الفاكهة البرية ... وإذ بذبابة تتهادى فى كسل بين الفاكهة ... ثم تحلق لتقف على وجهه الغارق فى سباته.
***********
باقى المشهد السابق معروف ... وله خصيصاً صيغ المثل العربى الشائع عن "الدبة التى قتلت صاحبها". ولكنّ باقى القصة هو مايدعو للاسترسال والحكى ، ويجعل المرء مزهولاً غير مصدق أن يتصرف "بشر" هكذا !!
فبدلاً من أن يلوم أفراد القافلة الدبة ويكفروا بحبها ويحطموا الدمى التى صنعوها على شكلها ، ويمزقوا قصائدهم التى كتبوها فى مدحها ... بدلاً من أن يقتلونها انتقاماً لكبيرهم ... ألتمسوا –بكل استسلام- العذر لها !!
أغلقوا التحقيق فى الحادث بــ"حب أفضى إلى الموت" دون أن يستبدولوا كلمة "حب" بأخرى تعبر عن بشاعة الفعل ، ودون أن يفكروا هل يكفى فى ال"الحب" شدته وصدقه ، دون النظر إلى طريقته وشخصيته ومدى ملائمته للواقع ومدى نفعه للمُحِب والمحبوب ؟؟
**********************
وصلت القافلة إلى وجتهها ... رثى أهل "المقتول" فقيدهم ، أكرموا الدبة التى أحسنت إليه فى أخر أيامه !! متجاهلين –فى شبه النسيان العمد- إنها "قتلته" ... فإذا تذكروا التمسوا لها العذر بالحب !!
أعطى رجال القافلة الدُمى لأطفالهم والرسائل لمحبوباتهم. نفر الأطفال من شكل الدبة القبيح ، وأهملت الزوجات الرسائل لأنهن لم تتقلبن أن يصير الحب دبة قبيحة القوام ، وهن ممشوقات ... بشعة الملامح وهن جميلات.
فكيف يقبل الأطفال دمية ذات فراء يثير القشعريرة عند لمسه ؟؟. ولم تتقبل الزوجات وجه الدبة ذو الأنف الأفطس الأسود الكبير الذى لايدل إلا أنانية تريد احتواء هواء العالم كله فى رئتيها. عينيها الضيقتين المغروستين كمسمارين صدئين فوق أنفها ... لاتحملان أى مشاعر.
تتعجب النساء كيف يُقدّم الرجال الدبة رمزاً لمحبتهم لهن ، وهى تحمل صفات شكلية مختلفة تماماً عن ما يرق له قلب الرجال ويتغزلون فيه ويتغنون به ؟؟.
ألم ينظموا منذ القدم القصائد فى القوام الملفوف والملامح الدقيقة والعيون النجلاء والبشرة الملساء الناعمة ؟؟ فمالنا وهذا الكائن البشع ؟؟؟
ولكنّ الوقت كفيل بخنق كل الأفكار ، وإلغاء كل الأسئلة ، وخلق ........ "التعوّد" !! ... مر الوقت واعتاد الأطفال الدمى الدببة ... وصاروا يتوارثونها ويطورونها ... واعتادت الزوجات أن يحبهم الرجال –بالأسقاط- كالدبة القاتلة ، بعد أن كرسوها رمزا ... فصار الرجال يمنعن زوجاتهم من الخروج والدخول باسم الحب ... وصاروا يقحمون أنفسهم اقحاماً فى كل تفاصيل حياتهن –كما تعلموا من الدبة- باسم الحب ، صاروا يضربوهن ... بل يقتلوهن باسم الحب !! ولمّا تعترضن –أو يعترض أى محبوب على ظلم حبيبه له وتعسفه- يكون الرد الغير منطقى بأنه "الحب" ..... وليس شئ آخر.
******************************
واليوم فى عصرنا هذا –عصر إعمال العقل- مازالت الدبة هى رمز لحبنا الذى لم نطوره –رغم التقدم العملى الهائل- ولم نتأمل فيه نناقشه –رغم ذيوع الثقافة والفلسفة والنقد المستمر- بل حتى لم نُعمل فيه فطرتنا ، وامتثلنا لفطرة دبة قتلت بحبها ..... فأحببناها !.
فسهل أن نقبل أن يُرمَز للجمال بـ"وردة" ، وأن يُرمَز للرقّة بــ"فراشة" ، ولكن لماذا يرمز للحب بــ"دبّة" ؟؟. يتبادل هذا الرمز ملايين ملايين العشاق كل يوم وتحديداً فى عيد "الحب" !! لماذا لانسميه "عيد الدبة" إذن ؟؟. وهل يحب المحبون –المُهدون- أحبائهم بطريقة أفلاطونية سامية ؟؟ أم بطريقة ملحمية مُضحية ؟؟ أم يحبون بطريقة "دببيّة" قاتلة ؟؟.
ولماذا نهدى للأطفال وللبنات الرقيقات الدب كهدية ؟؟ فإذا كانوا غير مُدركين فى حداثتهم للمعانى المطلقة ، وإذا كانوا لايدركون غير مايرصدونه بحواسهم ، وإذا كان القول اليونانى المأثور يلفت النظر أنه "كما الروح كذلك يكون الوجه" .... فه وجه الدببة هو فعلاً مايجسد الحب كما نريد أن ننقله لهم ؟؟.
المصيبة أن "حب الدببة" لم يتوقف عند حد الهدايا والمعاملات ... بل نفذ إلى الملجأ الأخير للإنسانية ... "الــعـــدل" !!!
تسربت روح "حب الدببة" إلى القوانين والتشريعات ليخرج علينا قانون "القتل الخطأ" مُبرئاً المذنب من أبشع الجرائم !! قتل خطأ وإصابة خطأ !!
مامعنى أن أسلب حياة أحدهم ثم لاأدان ؟؟... ولماذا استخدم إنسانيتى إذا كنت لاأجيد استخدامها ، فهذا القاتل الذى يقود وهو غائب الوعى لايستحق أن يقال عنه "مُخطئ" أو "لايقصد" ، إذا لم يحترم أدميته أولاً وأهلك أخرى ... أيصبح برئ !!. وهل "القتل الخطأ" ينتج عنه "قتيل غير مكتمل الوفاه" يمكن استرداد روحه لأن القتل لم يكن مستوفى الأركان وكان خطأ ؟.
وعلى نفس القياس أصبح هناك من يحب ويخون ويهجر فيقتل ... "قتل خطأ" ... أصبح هناك من يلقى –مثل الدبة- حجر فى جه إنسان ... مدبب ملتهب متمثلاً فى كلمة جارحة ، ويحسبه حباً ومصارحة. فإذا مات –الموجَه إليه- من الألم صار قتلاً خطأ !!.
لم نكتفى بأتباع سلوك شائن ، وإعطاءه اسماً من أورع كلمات الوجود ، بل أصبحنا نبرره أيضاً وبقوانين راقية !! ... أو المفروض هى كذلك.
أخشى ماأخشاه –وليس هناك مايثير رعبى وجزعى إلاه- أن لاتحين مِنّأ أٍـلإأٌ’ لأسلوب حبنا ... لشكل حبنا ... لكل مايخص حبنا بغض النظر عن شدته وصدقه ، لأن وجود محرك بقوة مليون حصان ليس هو كل شئ ... بل كل شئ هو مايفعله محرك بهذه القوة ... هل يبنى أم يدمر ؟؟ ... فى الأولى نهضة للإنسانية ، وفى الثانية كارثة.
فإن كان "داروين" قد قدم نظريته بتطور الجنس البشرى عن أصل قرد إلى إنسان ، فأخشى أن نطوّر نحن عواطفنا من بذرة إلهية فى الوجود الإنسانى إلى عاطفة دببيّة كسولة غبية. فهل نستفيق ؟؟ أم يستيقظ العالم يوماً –قريتنا الصغيرة بلغة العصل- وقد تحول لمدينة دبيّة ... نحاول أن نحيا بالحب فيها ، فإذا بنا من فرط الحب نفنى.