يبقي الحمام
هو الملاذ الآمن في كل مكان في العالم! .. ربما بحكم كونه المكان
الوحيد الذي لايطلب
تبريرًا أو تنويهًا لكونك تريد أن تكون وحيد، وتغلق الباب فلاتلصص.
لو لم أكن قد
هربت إلي الحمام، لكنت الآن أعاني أنهيارًا حقيقًا. الكثير من المعلومات .. الكثير
من المجادلات، الكثير من الأصوات والشرائح المضيئة علي الشاشة البيضاء ولوحات
شرح ومداخلات .. والكثير من التقلصات في
رحمي، ودفقات الدم الساخن بين فخذي، ودبابيس ساخنة تصعد من رحمي لصدري لذراعي
ورأسي فتصلبني علي
صليب وهمي.
أهرع في وقت
"البريك" للحمام .. مع ابتسامة صفراء لكل من يريد أن يستوقفني، ليحدثني
جانبيًا ليربحني لوجهة نظره .. "التويلت بليز" ..
أجلس بكامل ملابسي
الرسمية علي المرحاض .. أهدئ من روعي .. أسند رأسي علي الحائط المجاور. يلامس خدي
وصدغي الجانبي البلاطات السيراميكية الباردة فيرتعش جسدي بقشعريرة وتسيل دموعي. جرعة
حنان غريبة تدفقت إليّ من الحائط إلي جسدي!
رحمي يُشعل
جسدي بحريق الهرمونات، فيصعد الدخان الأسود إلي رأسي فيعمي عينيّ، ويصم أذناي ..
أنظر للزملاء واللوحات والرسومات فلا أري أو أسمع شيئًا .. تأتي كلمة "بريك"
فتصتادني كسمكة من البحر الأسود الذي أنا غارقة فيه.
الحائط
البارد يحنو علي روحي وجسدي .. يرسل أمطارًا باردة ترطب حرارتي. أنزع حذائي ذو
الكعب الدبوسي وأترك قدمي بالجورب الخفيف تنام في استرخاء علي البلاطات الباردة هي
الأخري. أضغط علي زر جهاز التعطير فتخرج منه رائحة تُرخي جسدي أكثر فاكثر.
لم أكن
احتاج إلا إلي ذلك الحضن البارد. لماذا يصفون في الروايات العاطفية الأحضان وقبلات
الحب بالــ"قبلات الساخنة الملتهبة" ؟؟ هل كل الروايات تُكتَبُ في
الشتاء؟ حتي لو ..، أجساد النساء ساخنة معظم الوقت تحت تأثير اضطرابتهن الهرمونية،
وتثقل دهونهن الكثيرة التي يحرقنها طوال الوقت علي خلاف الثقل العضلي الغالب
للرجال.
كثيرًا ماتنيت
حضنًا باردًا من زوجي! .. بل إني عندما يفيض بي الكيل واُحبط تمامًا من ضغط العمل
-كتلك اللحظة- أغلق عليّ باب حمام المنزل .. أملأ حوض الاستحمام بالماء البارد وأنام
فيه .. أحلم أحلامًا بهيجة أكون فيها طفلة تلهو بجانب نهر وتضحك بصوت عال وتجري وترش
المياه علي حيوانات سعيدة تلعب حولها. استقيظ وأنا مستعدة لمواجهة الحياة مرة أخري
حتي يحترق جسدي وروحي فاُعِيد الكرّة ..
جسد زوجي
دائمًا بارد .. كم تمنيت أن أسند رأسي عليه وأنا أجلس بجانبه ونشاهد فلمًا رومنسيًا،
لكنه دائمًا مايقول أن الأفلام الرومانسية تليق بالمراهقات لامديرة عبقرية مثلي،
فأخجل بأن أخبره أني أحبها جدًا، واُشاهدها وحدي علي جهاز حاسوبي المحمول اثناء
سفري .. في حمامات الفنادق الفاخرة.
يري أني
سيدة ناجحة وعملية ويتغزل في عقلي، كل هداياه لي حقائب جلدية أنيقة باهظة الثمن، ساعات
يد، حافظات أوراق. هل كان يجب أن أحب وأتزوج شخصًا لايعمل في نفس الشركة التي أعمل
بها، حتي يراني "فتاة" و "حبيبة" لامديرة ناجحة حتي في
المنزل.
قلت له مرة
إني أُحب فلم "مراتي مدير عام" لأُلمح له إني بداخلي شخصية تشبه شادية
الرومانسية "الدلوعة" خارج العمل، فقال لي أنه كذلك لأنه كصلاح ذو
الفقار لايخجل أن تكون زوجته مديرته، ويتمني لي المزيد من الترقي والنجاح!
أمد يدي
للصنبور وأفتحه أترك صوت المياه يربت علي روحي .. صوت المياة المتدفقة أروع موسيقي
مهدئة في العالم، ربما هذا كانت الشلالات والبحار مصدر سكينة. رزاز الماء يبرد وجهي.
أمد يدي وأملأ كفي من الماء البارد، ثم امسح علي صدغي واهبط إلي شفتيّ ورقبتي. سيكلفني
هذا وقتًا إضافيًا لتعديل مساحيق تجميلي، لكن لايهم .. دموعي الساخنة ازاحتها
قبلًا.
كم أننا قويات! .. أفكر كل يوم كم سيدة تسير في
الشارع وهي تنزف وتعاني من التقلصات! .. السُدس علي أقل تقدير. وهل يقدر أحد ذلك؟
لاأحد .. ولاحتي باقي السيدات والفتيات أنفسهن. كم واحدة تعاني مع الاحتباس الحراري
احتباسها الحراري الخاص؟ كم واحدة لاتحظي بوقت خاص في عملها أو منزلها، تبكي أو
ترفه عن نفسها؟ في لحظات مثل هذه أمتن لعدم وجود أطفال في حياتي، فكم أم تقضي ساعة
أو ساعتين كل اسبوع نائمة في حوض استحمام بارد معطر بلا ازعاج؟
طُرِقَ
الباب ودار المقبض أكثر من مرة أثناء جلوسي هكذا لوقت لاأعرف كم هو .. لاأكترث ..
حطموا الباب إذا أردتم أنا أحظي بجرعة الشفقة التي استحقها.
أنظر في
الساعة فادرك أن وقت "البريك" أوشك علي الانتهاء .. أُقبّل الحائط بشفتي
فتقبلني برودته. أشكر الله علي هذا الحنان والاحتواء الذي أودعه في هذا الحيز الضيق
والبلاطات الباردة .. كنت أتمني لو أنها قد أُودعت في إنسان، إنسان لايراني إدارية
مميزة فقط، بل سيدة تمر بكل ماتمر به السيدات من ضعف وانهزام وانكسار .. حتي لو
لأسباب كميائية تتعلق بطبيعتها البيلوجية، وحتي لو كانت ناجحة وقوية.
أرتدي حذائي
.. أنهض من علي المرحاض .. أقوم بغيير فوطتي الصحية الممتصة لكثير من دمائي
النازفة، أغسل يدي وأشرب من الصنبور المفتوح بكفي، أرش المياة علي وجهي المنحني
تحت الصنبور وابتسم .. اعدل مساحيق وجهي. اضع قطعة نعناع في فمي قبل أن أفتح الباب
وأغادر. ألقي نظرة أخيرة علي بيت الوِحدة .. وأمتن أن الحنان يصل إليّ، حتي لو من
خلال حوائط باردة بلا نوافذ.