أربعة وعشرون قيراط بوحدة المساحات تساوى فدان ...
فدان مخطط مساحياً زمنياً بخطوط النتيجة .. أيام وشهور وسنين. أربعة وعشرون عام .. وأربعة وعشرون قيراط ... بفدان عمر.
فى الفدان حالة نسبية من الاكتمال .. ليست الأرض بفدان ، ولكنها على أى حال محدودة .. كل الأوطان أفقياً مرسومة ومحدودة ، ويبقى الفرق فى العمق الذى تحمله الأرض فى قلبها ، وعدد النبضات التى صنعتها الأرجل على كل شبر .. كذلك المساحة الرأسية إلى فوق ... روحياً ، عقلياً. ثقافة الهواء الذى يشغل كل الفراغات فيعبر عن الامتلاء الحقيقى الغير منظور ، بكثافته ونوعه. أفكر فى عالمى الذى عشته .. وطنى الذى تكون وتكونت فيه وبه .. حياتى.
أفكر فى الأبار التى تفجرت تحت قدمى وأنا أسير فى أرضى الغامضة بخطوات عقارب الثوانى التى لا اتحكم فى سرعتها .. الأمطار التى هطلت علىّ فجأة .. العواصف التى اجتاحتنى وأرعبتنى حتى ظننت فيها النهاية. فدانى الصغير ، ملعب خبرتى التى نزفت فيه من الأشواك التى انبتها أو نبتت من نفسها نتيجة اهمالى رعاية أرضى .. رحم حياة الورود والفرح ، بستانى الصغير .. أجل أقول بستانى رغم خرائبه ، وحرائقه ، وساحات حروبه ،ومناطقة الجرداء المتصحرة.
أفكر فى الأرواح .. الذين هم بالنسبة لى فدادين بوضع اليد لا أطمع فى مزيد من التوسع فيها ، لأنى قد بلغت حدود روحها وأحصد أشهى ثمارها على تنوعها .. أجرى فيها على انطلاقى بلا خوف من كهوف مرعبة ، أو فخاخ مخبّأة .. حفظتها حتى بمناطق ضعفها ، ومساحات شوكها ... أعرف مايميز كل أرض روح فيها ، وأى ثمارها الذى يحتفظ بمرارته ولاينضج أبداً.
أفكر على كل مستويات الفدادين الرمزية التى أفكر فيها .. فأكتشف أن السماد العضوى هو بواقى محاصيل تتعفن وينتج عنها مايسمد الأرض فيجعلها تُغنى وتَغنى .. فأجمع أثمارى الفاسدة ومحاصيلى القابلة للحرق ، وأنظمها فى صفوف ، عالمة إنها ستدخل فى حيوات أعظم من التى كانتها ولن تفنى. بل إن عطالتها فى الماضى إثراء للمستقبل.
***
أربعة وعشرون قيراط تعبر عند الصائغين عن نقاوة الذهب وقلة خلطة النحاس به ... أنظر لخبراتى وبختم حكمى أطبع عليها علامة الأربعة وعشرين قيراط ... ليست لأنها كلها عظيمة وناجحة .. لكن لأن كلها كالذهب إذا قدرتها الآن ، كل فرحة .. كل ألم .. بل كل لحظة صمت أرى فيهم خبرة ارتديها فتثرينى لحاضرى ومستقبلى .. كنت استخف بمعنى الخبرة وأقول أن المعرفة تغنى .. حتى اُختُبِرت فاُختَبرت فعرفت أن الاختبار هو من يعطى الخبرة وليس الشحنات الذهنية الفارغة التى تدخل العقل بصبغة الصفر والواحد.
***
لماذا يكون "عيد الميلاد" عيد ؟؟ هو يوم فقط "يوم الميلاد" كمصطلحة الإنجليزى .. بل أنى ابحث عن لغة أدق تدعو بما يليق به كيوم للتأمل فى بداية الحياة ونهايتها.
اُصنف نفسى بأنى الإنسانة "الأسعد" على متسوى تاريخ البشرية الأفقى والرأسى .. واتحفظ على لفظة "أسعد" لأنى اراها غير دقيقة على الإطلاق ، فالسعادة هى حالة قائمة على المواقف –هابينيس / هابنس- فكون اللإنسان "هانئ" حياتياً ، لايعنى –بالنسبة لى- حالة من "الهطل" والضحك الهستيرى المستمر .. فتلك حالة من اللوثة العقلية ، أو التغييب كالناتج عن العقاقير المخدرة والمشروبات الروحانية.
حالة الإحساس الإنسانى بالحياة الكاملة الرائعة .. هو الاحساس بمن ذاق فى الجنة كل الأثمار .. الحلو منها والمر ، والمشبع والحارق وشبه السام المؤلم ..
احساس العين بأنها رأت درجات متنوعة جدا من الألوان ، منها القاتم والدموى ، لكنّ هذا ليس بالشىء المحبط –وإن كان فى مساحته- بل هو مايجعل للوحة ذلك التنوع والتكامل والتناقض والعمق والعجب.
***
اليوم أتأكد تماماً أن الوصول للعمق الداخلى للإنسان أمراً لايملكه الإنسان. أنه كتلك الفقرة التى تحاول لمسها بيدك فى ظهرك فلاتصل إليها أبداً مهما تلويت ، كبؤرة الألم الداخلى التى تعتصرها قبضتك فلاتصل إليها أصابعك.
كمحول الكهرباء الذى يملك وحده الوصول بالتيار للجهد المناسب لجهاز ما بالظبط .. أقل منه لايحيى الجهاز من صمت موته ، وأكثر منه يحرقه.
وحده الله الذى يعرف أن يلمس بالبرق غابة الروح الداخلية حتى باسبط الأشياء .. بنبات ينمو فوق الأسفلت ويستقى بقطرات من مكيف الهواء .. وطعم أكلة تدغدغ الحواس بلذة خفية .. بلسعة برد فى جو خانق يقشعر لها البدن ، فى لمعة سلسة فضية تنعكس على زجاج النافذة فتُلهِم للحظة أن فى القلب نجمة تضوى .. فى مليارات الأشياء بأكواد سرية لكل قلب .. لكل روح .. لكل عقل.
***
يتأتى يوم تذكار مولدى هذا العام بمناخ غريب ... أربعة جنازات بحالات وفاة متنوعة وغريبة وبشعة –خطف وقتل ، معاناة مع المرض الطويل ، موت مفاجئ ، حادث فوق الشنيع- فهل هذا يدعو للتشاؤم ؟؟ بالعكس ، فما الموت والحياة إلا شيئاً واحداً .. وتذكار الحياة يحمل فيه حتمية الموت لتولد الحياة الأسمى .. فهل الميتات بشعة ؟؟ أبداً لم تكن ، بل كانت الحياة كذلك .. الميتات البشعة هى تلك التى تأتى بعد الحياة بلاحياة.
والحياة .. ليست حفلة لمراهين لايوجد فيها إلا اللهو .. بس هى حالة بكل خليط المعانى ، لااستطيع أن أقنع مريض يلازم فراشه وتئن بالألم كل خلاياه أن فرحة الحياة ومتعتها تجسدت مرة لى –خلال العام المنصرم- فى طفل اختارنى دون كل الجلوس فى صالة عزاء وارتكز بيديه المخبوزتين من حب على ركبتىّ ، رفع وجه فى وجهى وابتسم حتى أنغلقت عيناه من ضغط وجنتاه ، ثم سحبنى بقوة تكاد تساوى صفر لركن من خياله فى المكان لأشاركه عبث ما ، فأندفع إليه كأنى ورقة.
وسوف لا يصدق أحد أنه فى أروع مواقف حياتى وأكثرها احتفالاً لازمتنى مرارة وتعاسة ، بسبب نظرة أزدراء وتحقير زمنها يساوى أقل من لحظة بسبب موقف فعلته ولم أقصد ماحمله من معنى أبداً ، ولكنه حمل مالم أحمله به فعاد إلىّ بالعلقم.
أنظر لتفاصيل الحياة الصغيرة جدا جدا ، اللفتات .. الكلمات .. اللمسات ، فأجدها كل شىء .. وأجد كلمة مثل "مهندس" مازالت ليست هى لذلك "الملف" –الذى لم اسحبه بعد- ولا الكارنية الذى لم اهتم باستخراجه ، بل هى تلك الهالة من التقديس ، والسمو الذهنى ، والإبداع الخيّر اللامحدود .. التى لا احسب نفسى استحقها بعد ، لكنى نلت حرية أن أصيغها بنفسى بعيداً عن المزيد القيود الإجبارية.
وألقاب كثيرة المفروض أنها قد دعيت علىّ .. اقيم نفسى على ضوء مفهومها ، فأدرك أن الأربعة وعشرين قيراط نقاوة ليسوا هما المقياس .. فقبل أن يكتشف "باستير" الجراثيم والميركروبات كان مفهوم "التطهير" مختلف تماماً عن بعده.
***
والآن يُطلب منى أن أتمنى أمنية ، أنظر لفدانى وابتسم واصمت .. يقول قلبى شيئاً لاينقله لعقلى فى صيغة كلامية .. وأتخيل لو أن امنياتى السابقة فى الأزمنة الغابرة كان قد تحقق منها شىء ، لكانت كل الأنهار الرقراقة التى تسقينى وتروى ثمارى قد تحولت إلى "كولا" .. وتحول الأسفلت الصلد الممهد تحت قدمى فى طرقى الطويلة لشيكولاتة تغرقنى ولا ألتهمها كشهوتى، ولصارت سحب عالمى عقيمة لاتمطر بعد أن صارت من غزل البنات الهش .. اتحسر حتى أنى لم أفكر كيف أحصل عليه بعد ،بدلاً من أن تحمله الرياح لخفته.
فدان يكتمل فإذا بى اخطو بعد خط تحديده خطوة ، فأدرك أنها ليست النهاية بعد .. ربما كانت بعد خطوة أخرى وربما خطوات عدة ، أنظر لفوق وابتسم ، وأمتلئ باحساس الحياة .. يحيرنى احساس "الكبر" الذى انتبهت إليه فجأة ! .. ويحيرنى "ما" مات .. والجديد الراقص بالحياة .. وكنت أظن الذى مات مخلداً ، والحى أمامى خيال !.