(1)
كنت ماسكة إيدُه وماشية معاه بنتفرج على فتارين محلات لعب الأطفال علشان يختار هدية لعيد ميلاده الرابع ، ماخدناش بالّنا أحنا الأتنين من قالب الطوب اللى فى نُصّ الرصيف ... اتخبط فيه جامد واتعوّر ... وِقع على الأرض بيعيط وبينزف ! ... ماكنتش عارفة أعمل إيه؟ ... أول مرة أواجِه حاجة كبيرة زىّ كدة مع أبنى ... نسيت حتى الاسعافات الأوليّة اللى كنا بناخدها زمان فى المدرسة من الخضّة.
دلقت شنطتى على الأرض بأرتباك أدوّر على مناديل ... حاجة أربط بيها الجرح ... برفان أطهرُه بِيه ... أى حاجة. لقيتُه فجأة بَطّل عياط وقالى "ماما .. فين السواق بتاع عربيتى؟" ، بصيتلُه لقيتُه ماسك عربيتُه اللعبة اللى كان مديهانى أشيلهالُه فى شنطتى وبيشاور على مكان السواق ... استغربت أنه بَطّل عِياط ومش حاسس برجلُه! ، بس لأنه كن هايعيط تانى بسبب غياب السواق ... فدورت بسرعة وسط الحاجات اللى أدّلقت من الشنطة لحد مالقيتُه ... رَكِبُه مكانه وربطلُه الحزام وقام علشان يجرّب العربية ، جرى بيها يشوفها سليمة ولا لأ! ... كنت بَبُصلُه بذهول وأنا مش مصدقة أنه نسى الخبطة تماما وأن الجرح بطّل ينزف لوحدُه! .
من الموقف دا عرفت مفتاح فى تربية أبنى وتعاملى معاه ، ألا وهو أنه "يتلهى"! . استخدمته بعد كدة كتير ... فلما مثلا يعيّط أنه عايز عجلة زى اصحابه ، أقوله إنه لو وضّب أوضته هاخده النادى يوم تانى غير بتاع الأجازة ... فيجرى يوضب الأوضة وهو مبسوط ويتقفل موضوع العجلة.
ولمّا يعيّط من مغص جامد مخليه مش قادر يروح المدرسة ، أقوله إن كدة مادام تعبان يبقى غالبا مش هايقدر يروح حمام السباحة بكرة ... فيروح المغص فى لخظة ، وتتبخّر دموعه ، ويلبس هدومه كمان من غير مساعدتى.
لمّا كبر ودخل الجامعة واتخرّج سلّمتُه مفتاحُه وحل أغلب مشاكله - اللى بتبقى فعليا مش عايزة ، أو ملهاش حل - فى إيدُه ... أنه "يتلهى".
وبقى حتى لما ينسى المفتاح دا ويجى من شغله يحكيلى وهو متضايق ومُحبَط ... عن زميله اللى بيحاربه علشان يسبقُه ... أو مديره اللى بيمُص دمُه ... أو ... أو ... ، أفكّره ... "حبيبى .. اتلهى" ، فيبتسم كأنه كان ناسى حاجة وأفتكرها ويقولى "طب جهزى نفسِك علشان هانروح سوا السينما ، وبعديها عزمِك على العشا".
(2)
قصة حُبّنا كانت أروع من أى رواية أو فلم ... استخدمنا فيها كل أبيات الشِعر الل أتكتبت عن الحب من أول ما اخترعوا حاجة اسمها كلام! ... كنت ببعتلّها كليبات و "رينج تون" الأغانى أول بأول مابتنزل لأنى كنت خَلّصت كل حاجة تانى ممكن أعبّر بيها عن حُبى الكبير. بس لمّا خِلص رصيدى وبطلّت ابعت قالتلى أنها مش هاتقدر تكمّل معايا! ... وأنها مش هاتقدر تسعدنى لأنها مش واخدة على عشية الفقر ، وأنا رغم طموحى مستوطن فيها. ماكنتش مصدق أن هى دى اللى ياما وعدتنى ووعدّتها أننا هانفضل مع بعض للنهاية ... بس هى قالتلى أن دى النهاية خلاص ... وحمد الله على السلامة! .
أتصدمت وأكتأبت والدنيا أسودّت فى وشى ... ، بقيت إنسان بائس ويائس وشكلُه يغُمّ ... ولمّا زميلتى فى المكتب كانت تقولّى "مالك بس؟" ... وكنت أقولها جُمل من نوع ... "حاسس بعبثيّة الحياة" ... "مش متفاعِل مع ماهيّة الأشياء" ... "فقدت رونق التجديد" ، و"نفسى يبتلعنى الثقب الأسود" ... كانت تفتح بُقّها ... وتتدفق من عينيها كل بلاهة الدنيا ... وبعدين تمصمص شفايفها وتحرك إيدها كأنها بتهِشّ دبانة وتقول "ياشيخ أتلهى"! .
كانت فعلا أكتر كيان تافه قابلته فى حياتى. كانت قارئة دؤوب لمجلات الطبيخ والموضة ...بس!. وحاجة زى "الألياذة و الأوديسة" ممكن بالنسبلها تكون اسم الدلع لــ"ريّا وسكينة" أو "بكيزة وزغلول"! ... كنت بَحكّى معاها –بس- بدل ما أموت من القهر ، وبعد ما بِعت كلبى اللى كنت بحكّى معاه وأشوف فى عينه تأثُر وفهم أكبر بكتير من اللى بشوفه فى عنيها. بعتُه لأنى ماكنش معايا أصرف عليه ، وبقيت بستمتع بتعذيب نفسى كل مرة احكيلها ... وهى تسمعنى –وغالباً بتكون سرحانة- وبعدين تتاوب وتقولى "ياشيخ أتلهى"! .
كل مرة كنت بسمعها منها وماأردش عليها ، لأن الرد اللى كان بيبقى فى دماغى ماينفعش أقوله قدام آنسة محترمة ... بس مرّة سمعتها منها كأنى بسمعها لأول مرة !!! ... أزاى مافكرتش فيها قبل كدة !!! ... فعلا دا حل مشكلتى العاطفيّة ... أنى "أتلهى".
وبدأت اعمل مشروع صغير أشغل بيه نفسى بعد معاد شُغلى ... كنت بموّت نفسى فيه عليشان أنسى ... ولمّا المشروع كِبر قدمت استقالتى من الشركة علشان أتفرغّلُه ... ، كُبر قوى وبقالى بزنس خاص بيزيد كل يوم . وأول حاجة فكرت فيها أول ما أوضاعى المالية بقت ممتازة وحياتى استقرت أنى ارتبطت.
ارتبطت بالإنسانة اللى غيرت حياتى بكلمة! ... أيوة هى ... من غير ما أتردد لحظة كنت عرفت أن هى دى الإنسانة اللى هاتسعدنى بجد ... ودا اللى حصل فعلاً. بقيت كل ماأواجِه مشكلتة فى شغلى ... أرجع واحكيلها بتفاصيل التفاصيل ... فتسمع وهى بتهز راسها ، وتقوم تلاقيلى حل حسب رؤيتها. مشكلة القروض المتأخرة حلّها صَنيّة مسقعة باللّحمة ... ومشكلة تصاريح الفرع الجديد حلّها أكلة محشى والحلو تورتة آيس كريم!. زوجة مثالية مُحصّنة ضد النكد والمشاكِل لأنها ماتفهمهاش أصلاً ... ودايما بتحسسنى أن الدنيا بخير.....ولذيذة!.
ويوم ماطلعت صورتى فى الجرايد مع الوزير فى افتتاح أكبر مرحلة من استثماراتى ... جالى تليفون من اللى كانت حبيبتى بتقولى أنها طول الفترة اللى فترة اللى فاتت ماكنتش عارفة تعيش وأنا بعيد عنها ... وأنها مش بتنام وحاسة بعبثية الحياة ، ومش متفاعلة مع ماهيّة الأشياء ، وفاقدة رونق التجديد و..... قُلتِلها إنها لو كانت كمان بتتمنى أنه يبتلعها الثقب الأسود ، فعندى حل رائع لمشكلتها فى كلمة واحدة ... "أتلهى".
هزقتنى إنى بهِنها وهى اللى كانت فاكرة إنى باقى على حُبنا الكبير و........ عيطت وقفلت السكة ف وشى! . مش عارف ليه زِعلت ، أنا كنت بتكلم جَدّ جداً وحاسس بكل كلمة بتقولها ، وقلتلها بأمانة شديدة حلّ متجرب فى حالة تطابق اللى بتوصفها ، وهو اللى غيرلى حياتى يوم ما استقب عقلى من ودانى ... "أتلهى".
(3)
مش معقولة يكون بيعاكس ... لأنه – مش هاقول فى سِن والدى – راجل فى سِن جدّى ... جدّى رمسيس التانى ... ولِيه نفس هيبته وأحترامه كمان. بس كل مرة أجى هنا يوم الأجازة أقرا وأشرب حاجة – من باب تغيير الجو- ألاقيه مركّز معايا قوى ن ولما غيرت ترابزتى مرة ...غيّر هو كمان ترابيزته وجه قدامى. ولما يوم كنت متضايقة واستأذنت من الشغل وجيت هنا ... لقيته برضه موجود وقاعد قدام ترابيزتى ... سرحان فى الكرسى بتاعى!.
يعنى أبطّل أجى هنا ولا إيه؟ ... دا تقريباً آخر الأماكن المحترمة اللى بجِيها وحدى وأنا مطمّنة ومش شاية هَمّ معاكسة ولا عكننة من أى نوع . عموماً أنا ماليش دعوة ... كتابى ف إيدى ... سماعاتى ف ودانى ... و"شليموهى" ف بُقّى ... وماحدش لُيه عندى حاجة.....
- "بون جور" .... ممكن أقعد معاكى؟ ... لو هازعجِك ماتُحرَجِش تقولى "نو".
زُهِلت جداَ أنه بنفسه جِه يكلمنى ، لما وقف بانت هيبته واستقراطيتُه أكتر ... كرر الجملة اللى فاتت دى مرتين لأنى أول مرة ماكنتش لسة شِلت السماعات من ودانى ... ماقدرتش أردّ بس لقتنى بقوم اسحبله كرسى وأشاورله يتفضل وما أقعُدش غير لما يِقعد هو ....
- "أسيفو مودمزيل"....
صمم إى أقعد قَبلُه ... ياه ... لسة فى ناس كدة!...
- طبعا أنتى متضايقة منى علشان حاسة إنى محاصرك ومقتحمك بنظراتى ... عموماَ أنا قررت أكسر الصمت وأكلمك بس علشان أقولك "باردو" ... بعتذر عن وقاحتى.
- أبداً ... أبداً ... أزاى حضرتك تقول كدة ... أنا مافكرتش كدة خالص...
مع إنى مافكرتش غير فى كدة أصلاَ.
- لو كدة يبقى اسمحيلى بقى أعّرفك بنفسى أنا "....." دبلوماسى سابق ... على المعاش من زمان ... أرمل وأولادى كلهم متجوزين بَرّة مصر ... عايش لوحدى ... قضيت أغلب عمرى بسافر من بلد ... ولما المرحومة أتوفت وأولادى كل واحد استقر فى البلد اللى لقى فيها شريكة حياته فَضّلت إنى أجى هنا وأعيش هِنا ... أو بعمنى أدق أكوت هنا....
ضحك بعدها ضحكة زى بتاعت الولاة والملوك فى الأفلام ، وسِكتْ. ماعرفتش أردّ ... بس المفروض – حسب الآداب الدبلوماسية – إن دا دورى إنى أعّرف نفسى.
- أنا "......" مُترجمة فى شركة أنترناشونال ... والدى ووالدتى برضُه أتعرفوا على بعض برّة مصر ... كل واحد فيهم أتولد فى قارة غير التانية ، بس هُما الأتنين كان ليهم أصول مصرية فجُم هنا علشان يلاقوا قرايبهم ....... لكن ماوصلوش لحد ! ... الله يرحمهم ... ماعرفش قرايب ليّ غير جدى رمسيس التانى.
ضحك نفس ضحكتُه الملوكية وضحكت ضحكتى المكتومة بحُكم طبيعتى الخجولة.
- " سى لا فى"
- "وى"....
- أنا من أول يوم سافرت كنت مقرر إنى هارجع ، وكل يوم كنت بحلم باليوم اللى هاجى فيه مصر تانى . كأنى كل حياتى كانت حلم مستنى اصحى منه ، وفى الحلم دا كنت بحلم بالواقع اللى نفسى ارجعلُه ... ليلة ما كنت راجع ماقدرتش أنام ، وحلمت وأنا صاحى بكل اللى بحِنّلُه ومشتاقلُه. صوت أم كلثوم وعبد الوهاب ف ودانى عِلّى ... وف عينى اتكثفت شبورة كورنيش النيل فى الشتا الدافى زى صيف البلاد اللى عشت فيها السنين اللى فاتت ... كنت مستعد أمشى القاهرة شارع شارع واملّى عنيا من مبانيها اللى كنت بفتخر وأتعالى قدام اصحابى الخوجات أنها كسبِت باريس كأجمل مدينة من عواصم دول حوض المتوسط ... سنة مش فاكر كام !... مثقفين وسط البلد ... قهاوى الحسين والأحياء القديمة ...
جيت مالقتش حاجة خالص من كل دا ... جيت لقيت الفن بقى اسفاف وابتزال وخدش حياء ... كل جمال بقى تلوث وقبح ... لقيت القاهرة فازت فى نفس السنة اللى جيت فيها على مستوى العالم – مش دول المتوسط بس – بأعلى نسبة تلوث لمدينة ، وأبطأ مرور !.
لقيت أشباه المثقفين بيلمهم الأمن المركزى ... والقهاوى بقيت أوكار حشيش . كان قدامى اخيتارين ... يا أتجنن ، يا أكتأب... وأخترت أنى أتجنن...
ضحك وضحكت رغم أنها كوميديا سودا ، بس هو قرر يقطع الدراما قبل ما الدمعة اللى أتكونت فى عينى يزُقها الخوف اللى واقف وراها ... وافضَحُه لما أعيّط !
غالباً كنت صعبت عليه ... بس بكل قوة للسكوت أترجيته بعنيّا يكمّل ...
- ماكنش ينفع أرجع تانى أى بلد برّة رغم أن دا أنسب لواحد فى سنى وظروفى علشان الرعاية الصحية وغيرها...
المرة دى لو كنت سافرت كنت هاسافر من غير حلم! ... الحياة من غير حلم ولا أمل هى الجحيم ... وأنتى أكيد عارفة يا مودمزيل أن الفرق بين الجحيم وأى حتة تانى هو غياب الأمل ... شُفتك وأنتى بتقرى "الكوميديا الإلهيّة" لدانتى.
ابتسمت مستغربة ومعجبة بذاكرته وقوة مُلاحظته ... وثقافته اللى أكيد أنا جنبّها صفر على الشمال ، وردّ على ابتسامتى بابتسامة التواضع الخجلان...
- أقنعت نفسى إنى لسة مارجعتش ! ... أيوة ، مش هى دى مصر ... ومسيرى يوم هارجع مصر! ... وهافضل احلم بصر لحَدّ ما ارجعلها ... وعلشان أحبُك الكدبة بقيت أجى كل يوم هنا الكافيه الخوجاتى دا ... علشان لما أشوف كل اللى حواليّا مش مصريين والموسيقى اللى شغّالة وحتى "الويترز" أجانب ... أصدق إنى لسة برّة . مش بقولك أخترت أتجنن...
ضحك وابتسمت . بس مرة واحدة بَصّ لتحت وملامح وِشّه اتغيرت كإنه افتكر حاجة ضايقتُه
- حاجة كمان بتخلينى أقضى أغلب يومى هِنا . مش عايز أموت لوحدى ف شقتى ، ويكتشفوا بالصدفة - لما الصاحب البيت يبلّغ إنى متأخر فى دفع الإيجار وأنه هياخد الشقة ... ويجّوا يكسروا الباب - إنى ميّت وجثتى متحللة من زمان ... قريت الخبر دا مرات من غير عدد من ساعة مارجعت.
بسرعة رِجعت فى الكرسى لورا وَجّعت راسى وغمّضت عينى وأخدت نَفس عميق كأنى ....... كـأنى أى حاجة ... بس كان لازم ادّليه فرصة يمسح الدمعة اللى هربت من عينه من غير ما أجرح كبرياءه ... وكمان أمنع الدمعة اللى كانت هاتهرب من عينى معاها ... فضِلت مغمضة عينى ومستنياه كأشارة أنه استعاد ترتيب ملامحه.
- سبب إنى كنت متابعِك ومهتم ... إنى زىّ ... دايماً لوحدِك فى أيام الأجازات ... وبتقرى بكل اللغات ... ملامحك المصرية خلّتنى مسؤل عنّك ! ... اعتبرينى من قرايبك اللى ماتعرفيش منهم حَدّ ... أنتى قَدّ حفيدتى ... اسمحيلى أناديكى باسمِك.
المرة دى رِجعت فى الكرسى ورَجعت راسى وغمضت عينى وأنا مش مصدّقة ... هو دا الاحساس اللى كنت بدوّر عليه من زمان ! ... احساس الأمان ؟ ... الألفة ؟ ... ماعرفش ... بس هو !
- أنا جيت كنت صغيرة ... تقريباَ أتربيت هنا ... بابايا ومامتى كانوا مثاليين قوى ... قوى ... زيادة عن اللزوم ... وللأسف ربونى على المثالية دى ... المثالية قتلتهم ومستنياها تقتلنى ...
كأنه شافنى فعلياً مقتولة ... انزعج جداً وقاطعنى...
- "نو" ... "نو" ... "نو" ... ليه بتقولى كدة ... أنتى لسة صغيرة ... و... و...
وسكت !
- أنا مش بقول كدة عن يأس ، بالعكس أنا عايشة حياتى ومستمتعة بيها بس زى ما حضرتك اتصدمت فى البلد ، فنها وأماكنها وشوارعها وما إلى ذلك ... أنا بقى اتصدمت فى البنى أدمين ، روحهم وأحلامهم وصدقهم وما إلى ذلك . ماحدش بقى بيحب إلا لغرض بعيد تماماً عن الحب ، ولا حد بيصاحب إلا علشان يستفيد ... اتعلمت مش ببلاش أن الوِحدة خير من جلس السوء.
- يعنى أقوم واسيبك ؟
ضحك ضحكة جديدة ... طفولية وحنينة ... فيها شقاوة عايزة تضحّكنى بأى شكل ... ضحكت من قلبى وهزيت راسى وأنا بضحك بــ"لا".
- أنا اكتشفت حاجة رائعة وغريبة جداً ، الوِحدة فى حدّ ذاتها مش وِحشّة . ممكن الواحد يبقى وحيد مايحسش ... بس يبدأ يتعب لما يسأل نفسه كل شوية عن وِحدتُه ... والقبح اللى حوالينا مش مصيبة ... ادراكنا ليه هو اللى مصيبة ... وفى حالة أننا نتجاهله أو ننشغل عنه بحاجة ، فإحنا بنلغى وجوده بالنسبلنا ، يعنى بننقله للعدم من حياتنا .
لو كان حد قالى قبل ما يحصلّى ... ، أن مامتى هاتموت بسبب الأهمال ، وأن بابايا هايموت وراها من حُزنه عليها . وأن الشخص الوحيد اللى حبيته واخلصتلُه ، وعشت مصريتُه وشُفت فيها كل أهلى يطلع بيستغلنى علشان عايز يتخلّص من مصريتُه دى وطمعان فى جنسيتى التانية لو كنت أدبّست وأتجوزته . وإن الإنسانة اللى وثقت فيها كصديقة كنت بالنسبة لها سلم لمستوى اجتماعى أرقى ، ولما لقيت فيه صِدتّها ارتبطت بِيه وقاطعتنى لحسّن فى يوم أفكّر حَدّ بأصلها أو أعايرها...
لو كان حد قالى كل دا ولو على سبيل الدعابة ، أو لعبة "ماذا لو ..." كنت هاموت من مجرد الفكرة ... بس لقيت الحل أنى ما أفكرش فى كل الحاجات دى ... كأنها ما حصلتش ! ... ومافيش حاجة تثبت . مش خيانة للذكرى ولاهروب ... بس ممكن استبدل كل دا من قوالب الزمن بحاجات تانى مثالية جداً جداً ، من الواقع ؟ ... مش لازم لأن أغلب الواقع بقى مسموم ... بس بطلّها من تلاجة الكُتِب ثنائية الأبعاد واجسمّها فى حياتى ... بخليها واقع إلى أن يثبت العكس ، ولما يثبت بلخلخُه بعكسه وهكذا ... . مالقتش وصف للى بعمله دا غير فعل واحد موجود بس فى العامية المصرية ، هو اصلا كلمة فصحى ... بس الروعة بتاعت المعانى الكتير فى استخدامه العامى مالهاش زَىّ ... حتى مالقتلوش ترجمة تانية فى أى لغة تانية تِدّى نفس المعنى.
أخد وضع مسرحى وقالى
- إذا فلتنجدينى بِه يا إلهّة الحكمة الأغريقية ، وسأحيا جامعاً للغيوم من سماءك ... وساكباً للأمطار على غاباتك .
ضحكت وأخدت وضع مسرحى قدامه ... فضل المشهد ثابت لحظةغَيّر كل واحد فينا - بخياله - ديكورات المكان وهدومنا العصرية ، واستحضرنا همومنا القلبيّة ... اتنين من آلهة الحضارة اليونانية بيتدّوا حضارتهم الحالية وحياتهم الشخصية . وكلمة ماتقولهاش واحدة فى سنّى لواحد فى سنّه ... ومش لايقة على المشهد إطلاقاً ... بس المعنى بين عينه وعنيا أعلى وأعمق من الصوت اللى فى حروف كلمة " أتــــــلـــــهــى ".............
كنت ماسكة إيدُه وماشية معاه بنتفرج على فتارين محلات لعب الأطفال علشان يختار هدية لعيد ميلاده الرابع ، ماخدناش بالّنا أحنا الأتنين من قالب الطوب اللى فى نُصّ الرصيف ... اتخبط فيه جامد واتعوّر ... وِقع على الأرض بيعيط وبينزف ! ... ماكنتش عارفة أعمل إيه؟ ... أول مرة أواجِه حاجة كبيرة زىّ كدة مع أبنى ... نسيت حتى الاسعافات الأوليّة اللى كنا بناخدها زمان فى المدرسة من الخضّة.
دلقت شنطتى على الأرض بأرتباك أدوّر على مناديل ... حاجة أربط بيها الجرح ... برفان أطهرُه بِيه ... أى حاجة. لقيتُه فجأة بَطّل عياط وقالى "ماما .. فين السواق بتاع عربيتى؟" ، بصيتلُه لقيتُه ماسك عربيتُه اللعبة اللى كان مديهانى أشيلهالُه فى شنطتى وبيشاور على مكان السواق ... استغربت أنه بَطّل عِياط ومش حاسس برجلُه! ، بس لأنه كن هايعيط تانى بسبب غياب السواق ... فدورت بسرعة وسط الحاجات اللى أدّلقت من الشنطة لحد مالقيتُه ... رَكِبُه مكانه وربطلُه الحزام وقام علشان يجرّب العربية ، جرى بيها يشوفها سليمة ولا لأ! ... كنت بَبُصلُه بذهول وأنا مش مصدقة أنه نسى الخبطة تماما وأن الجرح بطّل ينزف لوحدُه! .
من الموقف دا عرفت مفتاح فى تربية أبنى وتعاملى معاه ، ألا وهو أنه "يتلهى"! . استخدمته بعد كدة كتير ... فلما مثلا يعيّط أنه عايز عجلة زى اصحابه ، أقوله إنه لو وضّب أوضته هاخده النادى يوم تانى غير بتاع الأجازة ... فيجرى يوضب الأوضة وهو مبسوط ويتقفل موضوع العجلة.
ولمّا يعيّط من مغص جامد مخليه مش قادر يروح المدرسة ، أقوله إن كدة مادام تعبان يبقى غالبا مش هايقدر يروح حمام السباحة بكرة ... فيروح المغص فى لخظة ، وتتبخّر دموعه ، ويلبس هدومه كمان من غير مساعدتى.
لمّا كبر ودخل الجامعة واتخرّج سلّمتُه مفتاحُه وحل أغلب مشاكله - اللى بتبقى فعليا مش عايزة ، أو ملهاش حل - فى إيدُه ... أنه "يتلهى".
وبقى حتى لما ينسى المفتاح دا ويجى من شغله يحكيلى وهو متضايق ومُحبَط ... عن زميله اللى بيحاربه علشان يسبقُه ... أو مديره اللى بيمُص دمُه ... أو ... أو ... ، أفكّره ... "حبيبى .. اتلهى" ، فيبتسم كأنه كان ناسى حاجة وأفتكرها ويقولى "طب جهزى نفسِك علشان هانروح سوا السينما ، وبعديها عزمِك على العشا".
(2)
قصة حُبّنا كانت أروع من أى رواية أو فلم ... استخدمنا فيها كل أبيات الشِعر الل أتكتبت عن الحب من أول ما اخترعوا حاجة اسمها كلام! ... كنت ببعتلّها كليبات و "رينج تون" الأغانى أول بأول مابتنزل لأنى كنت خَلّصت كل حاجة تانى ممكن أعبّر بيها عن حُبى الكبير. بس لمّا خِلص رصيدى وبطلّت ابعت قالتلى أنها مش هاتقدر تكمّل معايا! ... وأنها مش هاتقدر تسعدنى لأنها مش واخدة على عشية الفقر ، وأنا رغم طموحى مستوطن فيها. ماكنتش مصدق أن هى دى اللى ياما وعدتنى ووعدّتها أننا هانفضل مع بعض للنهاية ... بس هى قالتلى أن دى النهاية خلاص ... وحمد الله على السلامة! .
أتصدمت وأكتأبت والدنيا أسودّت فى وشى ... ، بقيت إنسان بائس ويائس وشكلُه يغُمّ ... ولمّا زميلتى فى المكتب كانت تقولّى "مالك بس؟" ... وكنت أقولها جُمل من نوع ... "حاسس بعبثيّة الحياة" ... "مش متفاعِل مع ماهيّة الأشياء" ... "فقدت رونق التجديد" ، و"نفسى يبتلعنى الثقب الأسود" ... كانت تفتح بُقّها ... وتتدفق من عينيها كل بلاهة الدنيا ... وبعدين تمصمص شفايفها وتحرك إيدها كأنها بتهِشّ دبانة وتقول "ياشيخ أتلهى"! .
كانت فعلا أكتر كيان تافه قابلته فى حياتى. كانت قارئة دؤوب لمجلات الطبيخ والموضة ...بس!. وحاجة زى "الألياذة و الأوديسة" ممكن بالنسبلها تكون اسم الدلع لــ"ريّا وسكينة" أو "بكيزة وزغلول"! ... كنت بَحكّى معاها –بس- بدل ما أموت من القهر ، وبعد ما بِعت كلبى اللى كنت بحكّى معاه وأشوف فى عينه تأثُر وفهم أكبر بكتير من اللى بشوفه فى عنيها. بعتُه لأنى ماكنش معايا أصرف عليه ، وبقيت بستمتع بتعذيب نفسى كل مرة احكيلها ... وهى تسمعنى –وغالباً بتكون سرحانة- وبعدين تتاوب وتقولى "ياشيخ أتلهى"! .
كل مرة كنت بسمعها منها وماأردش عليها ، لأن الرد اللى كان بيبقى فى دماغى ماينفعش أقوله قدام آنسة محترمة ... بس مرّة سمعتها منها كأنى بسمعها لأول مرة !!! ... أزاى مافكرتش فيها قبل كدة !!! ... فعلا دا حل مشكلتى العاطفيّة ... أنى "أتلهى".
وبدأت اعمل مشروع صغير أشغل بيه نفسى بعد معاد شُغلى ... كنت بموّت نفسى فيه عليشان أنسى ... ولمّا المشروع كِبر قدمت استقالتى من الشركة علشان أتفرغّلُه ... ، كُبر قوى وبقالى بزنس خاص بيزيد كل يوم . وأول حاجة فكرت فيها أول ما أوضاعى المالية بقت ممتازة وحياتى استقرت أنى ارتبطت.
ارتبطت بالإنسانة اللى غيرت حياتى بكلمة! ... أيوة هى ... من غير ما أتردد لحظة كنت عرفت أن هى دى الإنسانة اللى هاتسعدنى بجد ... ودا اللى حصل فعلاً. بقيت كل ماأواجِه مشكلتة فى شغلى ... أرجع واحكيلها بتفاصيل التفاصيل ... فتسمع وهى بتهز راسها ، وتقوم تلاقيلى حل حسب رؤيتها. مشكلة القروض المتأخرة حلّها صَنيّة مسقعة باللّحمة ... ومشكلة تصاريح الفرع الجديد حلّها أكلة محشى والحلو تورتة آيس كريم!. زوجة مثالية مُحصّنة ضد النكد والمشاكِل لأنها ماتفهمهاش أصلاً ... ودايما بتحسسنى أن الدنيا بخير.....ولذيذة!.
ويوم ماطلعت صورتى فى الجرايد مع الوزير فى افتتاح أكبر مرحلة من استثماراتى ... جالى تليفون من اللى كانت حبيبتى بتقولى أنها طول الفترة اللى فترة اللى فاتت ماكنتش عارفة تعيش وأنا بعيد عنها ... وأنها مش بتنام وحاسة بعبثية الحياة ، ومش متفاعلة مع ماهيّة الأشياء ، وفاقدة رونق التجديد و..... قُلتِلها إنها لو كانت كمان بتتمنى أنه يبتلعها الثقب الأسود ، فعندى حل رائع لمشكلتها فى كلمة واحدة ... "أتلهى".
هزقتنى إنى بهِنها وهى اللى كانت فاكرة إنى باقى على حُبنا الكبير و........ عيطت وقفلت السكة ف وشى! . مش عارف ليه زِعلت ، أنا كنت بتكلم جَدّ جداً وحاسس بكل كلمة بتقولها ، وقلتلها بأمانة شديدة حلّ متجرب فى حالة تطابق اللى بتوصفها ، وهو اللى غيرلى حياتى يوم ما استقب عقلى من ودانى ... "أتلهى".
(3)
مش معقولة يكون بيعاكس ... لأنه – مش هاقول فى سِن والدى – راجل فى سِن جدّى ... جدّى رمسيس التانى ... ولِيه نفس هيبته وأحترامه كمان. بس كل مرة أجى هنا يوم الأجازة أقرا وأشرب حاجة – من باب تغيير الجو- ألاقيه مركّز معايا قوى ن ولما غيرت ترابزتى مرة ...غيّر هو كمان ترابيزته وجه قدامى. ولما يوم كنت متضايقة واستأذنت من الشغل وجيت هنا ... لقيته برضه موجود وقاعد قدام ترابيزتى ... سرحان فى الكرسى بتاعى!.
يعنى أبطّل أجى هنا ولا إيه؟ ... دا تقريباً آخر الأماكن المحترمة اللى بجِيها وحدى وأنا مطمّنة ومش شاية هَمّ معاكسة ولا عكننة من أى نوع . عموماً أنا ماليش دعوة ... كتابى ف إيدى ... سماعاتى ف ودانى ... و"شليموهى" ف بُقّى ... وماحدش لُيه عندى حاجة.....
- "بون جور" .... ممكن أقعد معاكى؟ ... لو هازعجِك ماتُحرَجِش تقولى "نو".
زُهِلت جداَ أنه بنفسه جِه يكلمنى ، لما وقف بانت هيبته واستقراطيتُه أكتر ... كرر الجملة اللى فاتت دى مرتين لأنى أول مرة ماكنتش لسة شِلت السماعات من ودانى ... ماقدرتش أردّ بس لقتنى بقوم اسحبله كرسى وأشاورله يتفضل وما أقعُدش غير لما يِقعد هو ....
- "أسيفو مودمزيل"....
صمم إى أقعد قَبلُه ... ياه ... لسة فى ناس كدة!...
- طبعا أنتى متضايقة منى علشان حاسة إنى محاصرك ومقتحمك بنظراتى ... عموماَ أنا قررت أكسر الصمت وأكلمك بس علشان أقولك "باردو" ... بعتذر عن وقاحتى.
- أبداً ... أبداً ... أزاى حضرتك تقول كدة ... أنا مافكرتش كدة خالص...
مع إنى مافكرتش غير فى كدة أصلاَ.
- لو كدة يبقى اسمحيلى بقى أعّرفك بنفسى أنا "....." دبلوماسى سابق ... على المعاش من زمان ... أرمل وأولادى كلهم متجوزين بَرّة مصر ... عايش لوحدى ... قضيت أغلب عمرى بسافر من بلد ... ولما المرحومة أتوفت وأولادى كل واحد استقر فى البلد اللى لقى فيها شريكة حياته فَضّلت إنى أجى هنا وأعيش هِنا ... أو بعمنى أدق أكوت هنا....
ضحك بعدها ضحكة زى بتاعت الولاة والملوك فى الأفلام ، وسِكتْ. ماعرفتش أردّ ... بس المفروض – حسب الآداب الدبلوماسية – إن دا دورى إنى أعّرف نفسى.
- أنا "......" مُترجمة فى شركة أنترناشونال ... والدى ووالدتى برضُه أتعرفوا على بعض برّة مصر ... كل واحد فيهم أتولد فى قارة غير التانية ، بس هُما الأتنين كان ليهم أصول مصرية فجُم هنا علشان يلاقوا قرايبهم ....... لكن ماوصلوش لحد ! ... الله يرحمهم ... ماعرفش قرايب ليّ غير جدى رمسيس التانى.
ضحك نفس ضحكتُه الملوكية وضحكت ضحكتى المكتومة بحُكم طبيعتى الخجولة.
- " سى لا فى"
- "وى"....
- أنا من أول يوم سافرت كنت مقرر إنى هارجع ، وكل يوم كنت بحلم باليوم اللى هاجى فيه مصر تانى . كأنى كل حياتى كانت حلم مستنى اصحى منه ، وفى الحلم دا كنت بحلم بالواقع اللى نفسى ارجعلُه ... ليلة ما كنت راجع ماقدرتش أنام ، وحلمت وأنا صاحى بكل اللى بحِنّلُه ومشتاقلُه. صوت أم كلثوم وعبد الوهاب ف ودانى عِلّى ... وف عينى اتكثفت شبورة كورنيش النيل فى الشتا الدافى زى صيف البلاد اللى عشت فيها السنين اللى فاتت ... كنت مستعد أمشى القاهرة شارع شارع واملّى عنيا من مبانيها اللى كنت بفتخر وأتعالى قدام اصحابى الخوجات أنها كسبِت باريس كأجمل مدينة من عواصم دول حوض المتوسط ... سنة مش فاكر كام !... مثقفين وسط البلد ... قهاوى الحسين والأحياء القديمة ...
جيت مالقتش حاجة خالص من كل دا ... جيت لقيت الفن بقى اسفاف وابتزال وخدش حياء ... كل جمال بقى تلوث وقبح ... لقيت القاهرة فازت فى نفس السنة اللى جيت فيها على مستوى العالم – مش دول المتوسط بس – بأعلى نسبة تلوث لمدينة ، وأبطأ مرور !.
لقيت أشباه المثقفين بيلمهم الأمن المركزى ... والقهاوى بقيت أوكار حشيش . كان قدامى اخيتارين ... يا أتجنن ، يا أكتأب... وأخترت أنى أتجنن...
ضحك وضحكت رغم أنها كوميديا سودا ، بس هو قرر يقطع الدراما قبل ما الدمعة اللى أتكونت فى عينى يزُقها الخوف اللى واقف وراها ... وافضَحُه لما أعيّط !
غالباً كنت صعبت عليه ... بس بكل قوة للسكوت أترجيته بعنيّا يكمّل ...
- ماكنش ينفع أرجع تانى أى بلد برّة رغم أن دا أنسب لواحد فى سنى وظروفى علشان الرعاية الصحية وغيرها...
المرة دى لو كنت سافرت كنت هاسافر من غير حلم! ... الحياة من غير حلم ولا أمل هى الجحيم ... وأنتى أكيد عارفة يا مودمزيل أن الفرق بين الجحيم وأى حتة تانى هو غياب الأمل ... شُفتك وأنتى بتقرى "الكوميديا الإلهيّة" لدانتى.
ابتسمت مستغربة ومعجبة بذاكرته وقوة مُلاحظته ... وثقافته اللى أكيد أنا جنبّها صفر على الشمال ، وردّ على ابتسامتى بابتسامة التواضع الخجلان...
- أقنعت نفسى إنى لسة مارجعتش ! ... أيوة ، مش هى دى مصر ... ومسيرى يوم هارجع مصر! ... وهافضل احلم بصر لحَدّ ما ارجعلها ... وعلشان أحبُك الكدبة بقيت أجى كل يوم هنا الكافيه الخوجاتى دا ... علشان لما أشوف كل اللى حواليّا مش مصريين والموسيقى اللى شغّالة وحتى "الويترز" أجانب ... أصدق إنى لسة برّة . مش بقولك أخترت أتجنن...
ضحك وابتسمت . بس مرة واحدة بَصّ لتحت وملامح وِشّه اتغيرت كإنه افتكر حاجة ضايقتُه
- حاجة كمان بتخلينى أقضى أغلب يومى هِنا . مش عايز أموت لوحدى ف شقتى ، ويكتشفوا بالصدفة - لما الصاحب البيت يبلّغ إنى متأخر فى دفع الإيجار وأنه هياخد الشقة ... ويجّوا يكسروا الباب - إنى ميّت وجثتى متحللة من زمان ... قريت الخبر دا مرات من غير عدد من ساعة مارجعت.
بسرعة رِجعت فى الكرسى لورا وَجّعت راسى وغمّضت عينى وأخدت نَفس عميق كأنى ....... كـأنى أى حاجة ... بس كان لازم ادّليه فرصة يمسح الدمعة اللى هربت من عينه من غير ما أجرح كبرياءه ... وكمان أمنع الدمعة اللى كانت هاتهرب من عينى معاها ... فضِلت مغمضة عينى ومستنياه كأشارة أنه استعاد ترتيب ملامحه.
- سبب إنى كنت متابعِك ومهتم ... إنى زىّ ... دايماً لوحدِك فى أيام الأجازات ... وبتقرى بكل اللغات ... ملامحك المصرية خلّتنى مسؤل عنّك ! ... اعتبرينى من قرايبك اللى ماتعرفيش منهم حَدّ ... أنتى قَدّ حفيدتى ... اسمحيلى أناديكى باسمِك.
المرة دى رِجعت فى الكرسى ورَجعت راسى وغمضت عينى وأنا مش مصدّقة ... هو دا الاحساس اللى كنت بدوّر عليه من زمان ! ... احساس الأمان ؟ ... الألفة ؟ ... ماعرفش ... بس هو !
- أنا جيت كنت صغيرة ... تقريباَ أتربيت هنا ... بابايا ومامتى كانوا مثاليين قوى ... قوى ... زيادة عن اللزوم ... وللأسف ربونى على المثالية دى ... المثالية قتلتهم ومستنياها تقتلنى ...
كأنه شافنى فعلياً مقتولة ... انزعج جداً وقاطعنى...
- "نو" ... "نو" ... "نو" ... ليه بتقولى كدة ... أنتى لسة صغيرة ... و... و...
وسكت !
- أنا مش بقول كدة عن يأس ، بالعكس أنا عايشة حياتى ومستمتعة بيها بس زى ما حضرتك اتصدمت فى البلد ، فنها وأماكنها وشوارعها وما إلى ذلك ... أنا بقى اتصدمت فى البنى أدمين ، روحهم وأحلامهم وصدقهم وما إلى ذلك . ماحدش بقى بيحب إلا لغرض بعيد تماماً عن الحب ، ولا حد بيصاحب إلا علشان يستفيد ... اتعلمت مش ببلاش أن الوِحدة خير من جلس السوء.
- يعنى أقوم واسيبك ؟
ضحك ضحكة جديدة ... طفولية وحنينة ... فيها شقاوة عايزة تضحّكنى بأى شكل ... ضحكت من قلبى وهزيت راسى وأنا بضحك بــ"لا".
- أنا اكتشفت حاجة رائعة وغريبة جداً ، الوِحدة فى حدّ ذاتها مش وِحشّة . ممكن الواحد يبقى وحيد مايحسش ... بس يبدأ يتعب لما يسأل نفسه كل شوية عن وِحدتُه ... والقبح اللى حوالينا مش مصيبة ... ادراكنا ليه هو اللى مصيبة ... وفى حالة أننا نتجاهله أو ننشغل عنه بحاجة ، فإحنا بنلغى وجوده بالنسبلنا ، يعنى بننقله للعدم من حياتنا .
لو كان حد قالى قبل ما يحصلّى ... ، أن مامتى هاتموت بسبب الأهمال ، وأن بابايا هايموت وراها من حُزنه عليها . وأن الشخص الوحيد اللى حبيته واخلصتلُه ، وعشت مصريتُه وشُفت فيها كل أهلى يطلع بيستغلنى علشان عايز يتخلّص من مصريتُه دى وطمعان فى جنسيتى التانية لو كنت أدبّست وأتجوزته . وإن الإنسانة اللى وثقت فيها كصديقة كنت بالنسبة لها سلم لمستوى اجتماعى أرقى ، ولما لقيت فيه صِدتّها ارتبطت بِيه وقاطعتنى لحسّن فى يوم أفكّر حَدّ بأصلها أو أعايرها...
لو كان حد قالى كل دا ولو على سبيل الدعابة ، أو لعبة "ماذا لو ..." كنت هاموت من مجرد الفكرة ... بس لقيت الحل أنى ما أفكرش فى كل الحاجات دى ... كأنها ما حصلتش ! ... ومافيش حاجة تثبت . مش خيانة للذكرى ولاهروب ... بس ممكن استبدل كل دا من قوالب الزمن بحاجات تانى مثالية جداً جداً ، من الواقع ؟ ... مش لازم لأن أغلب الواقع بقى مسموم ... بس بطلّها من تلاجة الكُتِب ثنائية الأبعاد واجسمّها فى حياتى ... بخليها واقع إلى أن يثبت العكس ، ولما يثبت بلخلخُه بعكسه وهكذا ... . مالقتش وصف للى بعمله دا غير فعل واحد موجود بس فى العامية المصرية ، هو اصلا كلمة فصحى ... بس الروعة بتاعت المعانى الكتير فى استخدامه العامى مالهاش زَىّ ... حتى مالقتلوش ترجمة تانية فى أى لغة تانية تِدّى نفس المعنى.
أخد وضع مسرحى وقالى
- إذا فلتنجدينى بِه يا إلهّة الحكمة الأغريقية ، وسأحيا جامعاً للغيوم من سماءك ... وساكباً للأمطار على غاباتك .
ضحكت وأخدت وضع مسرحى قدامه ... فضل المشهد ثابت لحظةغَيّر كل واحد فينا - بخياله - ديكورات المكان وهدومنا العصرية ، واستحضرنا همومنا القلبيّة ... اتنين من آلهة الحضارة اليونانية بيتدّوا حضارتهم الحالية وحياتهم الشخصية . وكلمة ماتقولهاش واحدة فى سنّى لواحد فى سنّه ... ومش لايقة على المشهد إطلاقاً ... بس المعنى بين عينه وعنيا أعلى وأعمق من الصوت اللى فى حروف كلمة " أتــــــلـــــهــى ".............